المعاناة، بين الحقيقة المفزعة ... والتمثيل المغلق
تشتد وطأة المعاناة إذا شملت مساحة المجتمع كاملة أو تكاد . فالكوارث الطبيعية من أقدار الله ، والاقتتال الداخلي في مجتمع مـا ، والنوازل التي تجتاح البشرية أثناء الحروب العالمية ، وانتشار بعض أنواع الأوبئة التي تفتك بالآلاف من الناس ... تعيد الواقع المــر في حياة الناس بشكل عام ، وحياة الفقراء خاصة . والمعاناة تضع المحتاج أمام مواقف في بعضها الكثير من الإحراج والحيرة ، كما أنها في موقف آخر تضع المحسن المتبرع في شيء من الريبة الغامضة ، فالمحتاج الذي افترش قارعة الطريق بهيئته التي تدعو إلى العطف ، لاتدع مجالا للشك في معاناته ، وفي الحقيقة نحن غالبا مـا نستسلم للأشخاص الذين يقصون علينا معاناتهم ، فلا مجال للحيرة أو الشك تجاههم أمام ضعفهم ، وقلة حيلتهم فندعمهم بشتى الطرق المتاحة مرددين جملتنا العامية (لازم يوقف على إجريه ) .
وينطبق الأمر أيضا على المتسوّلين في الشوارع سواء بالصورة التي يعكسونها بلباسهم أو بمشيتهم كما ذكرنا ، وهناك أيضا بائعو المناديل أو البسكويت أو الورد ، أولئك الذين يسيحون في الشوارع أو الساحات المزدحمة بالناس ، فيشتري الناس منهم ولو كانوا بغير حاجة إلى مايبيعونه لأن هذا النوع وراءه مَن يعانون من أيتام أو أرامل أو أسر مستورة . وهذا النوع الأخير يؤكد لك أنه يكسب لقمته بعرق جبينه ، فيستميل قلبك( بكرامة) فتشتري منه ، وإن لم تكن بحاجة لسلعته ، وإنما هي عفّته أثارت حساسيتك ومشاعرك فتعاطفت معه ، ويبقى لدى بعض الناس حدس يخبره بأن الأمر برمته تمثيلية ليس إلاّ ، وأن هؤلاء الذين يستعطفوننا هم ليسوا كما نظن أو كما نراهم!ورغم ذلك لا نعلن عن صوت حدسنا ذلك خوفا منّا أن نظلم السائل ، وهناك مقولة (من خدعنا بالله انخدعنا له ) . وطبيعتنا الخيِّرة ــ ولله الحمد ــ تفضل أن نحسن الظن بمن هم حولنا، على أمل أن نكون من الناس (اللي لسه فيها خير) أو (لسه الدنيا بخير ) ، ونحن نعرف جيدا أن هنالك فعليا أشخاصا تحسبهم أغنياء من التعفف، وهـم أقوياء من شدة صبرهـم ، هانئين بحياتهم بابتسامتهم وتفاؤلهم رغم الكرب الذي يطبق على أنفاسهم، وهنالك أشخاص ترّق لهم القلوب من شدة ما عانوا، وفي صمتهم ألف حكاية وحكاية ، وفي ثنايا حديثهم منعطفات محكمة الإغلاق بعيدا عن الأعين التي ترصد الأحداث ، وتخفي ما لديها ، فلا معين لها إلاّ الله. والله أرحم الراحمين . وقد يكون ما يبدو من أشكال المعاناة من أكثر الطرق استخداما للإيقاع بالقلوب هي : (المعاناة ) ، ولكن كما قلنا صِدْقُ نيِ المحسن الكريم المتبرع تدفعه إلى تخطي عتبة الشك ، ويعطي لأنه يطمع برحمة الله ورضاه وتوفيقه ، تحثه آيات كريمات في كتاب الله تبارك وتعالى : ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ 92/آل عمران . وآيات أخرى كثيرة . فالزكاة والصدقات والتبرعات والوقف وغيرها من أبواب الأعمال الخيرية ، فيها أحكام ولها دلائل ويكتنفها الثواب الجزيل عند الله . والله يضاعف الأجر لمَن يشاء إلى أضعاف مضاعفة . فتقديم المساعدة للمحتاج مهما كانت هذه المعونة فإن الله يزيد صاحبها من فضله . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسبٍ طيِّب، لا يقبل الله إلا الطيِّبَ، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل )؛ متفق علي . وحسب الذي يعطي لوجه الله رضوان الله عليه ، ثم دعاء الملائكة له ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسكًا تلفًا) متفق عليه . وهذا الباب من أبواب الخير الواسعة ، ولا يجهلها مسلم ولا مسلمة ، وللتاريخ شهادات على مكانة العمل الخيري ، وعلى مدى تأثيره في حياة المجتمعات .
إضاءة :
ولأن الصدقة لها أهمية بالغة أدرك أهميتها الموتى، ولذلك يتمنى الموتى الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة، ليقدموا صدقة لله عز وجل، ولقد نقل الله لنا أمنيتهم هذه فى قوله تعالى: (أَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أن يَأْتِى أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المنافقون ) .
وسوم: العدد 969