الاقتصاد السوري وممارسات نظام الأسد بعد 11 عامًا من الثورة

عبد الحافظ الصاوي

 محاضرة ألقيت بالأمس 20 فبراير/ 2022 في مؤتمر لا للتطبيع مع النظام 

مقدمة

منذ انطلاق الثورة السورية في مارس 2011، وثمة خسائر متتالية - بسبب ممارسات نظام الأسد الدامية - نالت من قدرات الاقتصاد السوري، وبخاصة في ما يتعلق بأهم مكونات ثروات الشعوب، وهو المكون البشري، حيث تعرّض عدد كبير من سكان سورية، إلى النزوح والتهجير، والقتل والإصابة بعاهات مستديمة. فضلًا عن ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتراجع معدلات الالتحاق بالتعليم، وكذلك تراجع الخدمات الصحية، وأيضًا تهدم الكثير من منشآت البنية الأساسية.

وفي ظل الأوضاع الكارثية التي يعيشها الشعب السوري، مع بقاء نظام الأسد، حري بنا أن ننظر إلى هذا الواقع، ونقف على ما ألم بالشعب السوري، وكذلك كيفية أداء نظام الأسد مع ما فُرِضَ عليه من عقوبات، واعتماده على ما يقدم له من دعم، من قبل النظامين الإيراني والروسي، وإلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا الدعم لبقاء نظام الأسد بديكتاتوريته ودمويته، لممارسة عملية الإبادة في حق الشعب السوري. وكذلك النظر إلى مستقبل الاقتصاد السوري في ظل غياب نظام الأسد، عبر التوصل لتسوية سياسية.

وحتى يمكننا الوصول إلى نتائج بشأن ما طرحناه، ويمكن وصفه بالسؤال الرئيس لهذه المداخلة، سوف نتناول المحاور الآتية:

  • الوضع الاقتصادي والمالي الحالي للنظام

ثمة مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تعكس حجم التراجع الكبير في أداء الاقتصاد السوري، نتيجة ممارسات نظام الأسد الدموي، منها ما يخص الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، والذي وصل إلى 22.7 مليار دولار في عام 2019، بعد أن كان 252 مليار دولار في عام 2010، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.

ونتيجة لهذا التراجع الكبير في قيمة الناتج المحلي الإجمالي لسورية، فقد انخفض نصيب الفرد في المتوسط من هذا الناتج، فبعد أن كان المتوسط السنوي لنصيب الفرد من الناتج، يقدر بـ 11.8 ألف دولار في عام 2010، انخفض إلى 1.3 ألف دولار فقط لا غير، وهو ما أدى إلى ذهاب تقديرات أممية، بشأن الفقر في سورية، بأن أكثر من 90% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر.

وتحولت سورية على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية مع العالم الخارجي، إلى علاقة شديدة المحدودية، ففي عام 2010 كانت العلاقات التجارية الخارجية لسورية، بحدود 30 مليار دولار تقريبًا، إلا أنها تحولت في عام 2020 إلى قرابة 6.3 مليار دولار فقط لا غير.

ففي عام 2010 كانت الصادرات السلعية السورية 12.8 مليار دولار، وكانت الواردات السلعية 17.5 مليار دولار، بينما في عام 2020 تدنت الصادرات السلعية إلى أقل من مليار دولار لتصل إلى 868 مليون دولار فقط لا غير، وبلغت الواردات السلعية 5.4 مليار دولار.

أما المؤشرات النقدية والمالية، فهي كذلك تراجعت بمعدلات كبيرة، حيث كان معدل التضخم في عام 2010 بحدود 4.2%، ولكن مع تراجع الإيرادات العامة، وبخاصة الدولارية منها، وانهيار سعر الصرف لليرة السورية، فقد بلغ معدل التضخم 878.3% في عام 2019، وقد تجاوز هذه المعدلات بكثير في عام 2021، حيث شهدت الليرة السورية انهيارات أكبر مما كانت عليه في عام 2019، فحسب أسعار الصرف المعلنة، بلغ سعر صرف الدولار 3600 ليرة في السوق السوداء، بينما في السوق الرسمية بلغ 2525 ليرة، ومن هنا تشتد أعباء المعيشة على الأسر السورية المقيمة داخل البلاد.

وفي الوقت الذي انهارت فيه أسعار صرف العملة المحلية، وتراجع الموارد الدولارية للبلاد، كان من الطبيعي أن ينهار احتياطي النقد الأجنبي في سورية، فبعد أن كان 20 مليار دولار في 2010، انخفض إلى أقل من مليار دولار في عام 2019، حيث قدر بنحو 700 مليون دولار فقط لا غير، وإن كان نظام الأسد يذهب إلى سياسة السوق المفتوحة لتقدم أسعار مغرية للمواطنين، الذين يعيشون على التحويلات الخارجية، ليشتري منهم الدولار، لكي يحافظ على رصيد احتياطي من النقد الأجنبي عند مليار دولار فقط لا غير.

  • الخسارة الأفدح

قد تكون الأرقام المذكور سابقًا معبرة عن تراجع في مؤشرات اقتصادية ومالية بشكل كبير في سورية، بسبب ممارسات نظام الأسد منذ مارس 2011، ولكن الخسارة الفادحة، التي وقعت بحق الشعب السوري، هي خسائر الثروة البشرية، سواء فيما يتعلق بالقتلى أو الجرحى، أو المهجرين أو النازحين، أو طالبي اللجوء السياسي أو الإنساني، في دول شتى.

إن الإنسان هو عماد التنمية، وهو المستهدف بها، وقد لوحظ أن الخسائر البشرية الناتجة عن الوضع في سورية، غير متصورة، فتقرير الأمم المتحدة في مارس 2021 عكس بعض من هذه الخسائر، والتي من بينها وجود نحو 6.7 مليون سوري ما بين لاجئ ونازح وطالب للجوء، في أكثر من 130 دولة على مستوى العالم، وتعكس الأرقام أن 66% من المهاجرين السوريين من النساء والأطفال، كما يوجد 1.6 مليون طفل سوري دون سن العاشرة، و1.8 مليون لاجئ يعيشون في ملاجئ عشوائية، ويذكر التقرير أن نحو 13 مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية وحماية. وثمة 2.4 مليون طفل سوري خارج المدارس، وهناك 1.6 مليون طفل معرضون للتوقف عن الدراسة، وأنه يوجد 9 أفراد من بين كل 10 أفراد من اللاجئين يعانون من الفقر المدقع.

هذه هي بعض صور الخسائر في الثروة البشرية المباشرة، ولكن هناك خسائر أخرى، تمثلت في حرمان سورية من إمكانيات أبنائها التعليمية والعقلية والتجارية والاقتصادية، وقد برزت نماذج كثيرة من المهاجرين واللاجئين السوريين في تقديم خدمات متميزة للمجتمعات التي تواجدوا فيها، كان أولى بها بلدهم سورية.

وقد حظيت العديد من الدول التي استقبلت المهاجرين السوريين، بوجود استثمارات لهؤلاء المهاجرين، وكذلك عمال مهرة، وكل ذلك خصمًا من الناتج المحلي الإجمالي لسورية.

ومن الطبيعي في ظل ممارسات الأسد، على مدار 11 عامًا، من قتل وتدمير، أن يزدهر الفساد، فاحتلت سورية مكانًا بارزًا ضمن قائمة أفسد 10 دول على مستوى العالم، حسب مؤشر مدركات الفساد، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، ويشمل نحو 180 دولة على مستوى العالم.

  • استراتيجية النظام لتجاوز أزمة العقوبات

في ديسمبر 2019 أقر مجلس النواب والشيوخ قانون عقوبات تخص النظام السوري، عرف باسم "قانون قيصر"، وقد دخل العمل بهذا القانون في يونيو 2020، واستهدف القانون، الحد من قدرات نظام الأسد اقتصاديًا، حتى لا يتمكن من تحقيق نصر عسكري، ودفعه إلى العملية السياسية، وحرمانه من العوائد المادية الخارجية، وكذلك صور الدعم المادي التي مكنته من ارتكاب جرائم كبيرة بحق الشعب السوري.

شمل قانون قيصر شخص بشار الأسد، وزوجته، وبعض أفراد أسرته، كما شمل بعض المسؤولين، والمؤسسات السورية، حيث منع القانون التعامل على النفط السوري، أو التعامل مع البنك المركزي السوري، ومنع التعامل مع جهاز الأمن والاستخبارات السورية، وكذلك القوات المسلحة السورية، وحذر تقديم السلاح لنظام الأسد، وتجميد مساعدات إعادة الإعمار، كما شمل القانون بعض المؤسسات الإيرانية والروسية.

ومع صدور القانون الأمريكي بشأن معاقبة نظام الأسد، اعترضت على القانون كل من روسيا والصين، دعمًا لنظام الأسد، بحجة أن القانون يستهدف سلطة شرعية، أو أنه لم يراعِ أوضاع البلاد في ظل مواجهة أزمة جائحة كورونا.

ولكن حالة الضعف التي تمكنت من نظام الأسد، على الصعيد السياسي والاقتصادي، تحد من قدراته على مواجهة أزمة العقوبات المفروضة على مؤسسات النظام أو الأفراد البارزين فيه، من قبل أميركا، وليس أمام النظام سوى الاعتماد على الدعم المقدم من إيران وروسيا، في ضوء مجموعة من الاتفاقيات، أو التنازلات عن مرافق مهمة في الدولة السورية، وكذلك تمكين روسيا وإيران من موانئ مهمة، وكذلك منشآت أخرى.

وقد لوحظ خلال الأشهر الماضية، أن ثمة تقاربات لنظام الأسد من بعض دول الخليج، المساندة للثورات المضادة، والنظم الاستبدادية، مثل الإمارات والسعودية، ولعل هذا التقارب يفتح بعض النوافذ لنظام الأسد للحصول على دعم ما، ولو بصورة غير رسمية، ولكن هذا الدعم ستكون عليه قيود كثيرة، وبخاصة من قبل أمريكا، وفي نفس الوقت لن يكون هذا الدعم من هذه الدول الخليجية، قادر على مساندة كاملة لنظام الأسد، في ظل أزمته الاقتصادية المحتدمة، وبخاصة أن هذه الدول تعاني من أزمة مالية وتمويلية مؤثرة على أوضاعها المالية بشكل واضح، ألجأها إلى الاقتراض من الخارج، وتطبيق حزمة من الإجراءات التقشفية غير المسبوقة في تاريخها.

ويمكن وصف استراتيجية النظام لمواجهة العقوبات، بأنها تقوم بشكل رئيس على الاعتماد على الدعم الإيراني والروسي، وبخاصة الدعم الإيراني، الذي ينتظر أن يزيد لنظام الأسد خلال الفترة القادمة، في ضوء الأخبار المتداولة عن قرب توصل إيران لاتفاق بشأن برنامجها النووي مع أمريكا وإيران، وهو ما سيمكن إيران من أوضاع مالية أفضل مما هي عليه منذ منتصف عام 2018.

قد تكون العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد، أحد المعوقات لتقديم الدعم الإيراني المباشر لنظام الأسد، ولكن إيران اعتادت على تقديم دعمها لجهات عدة بصور خفية وغير معلنة، وهو المتوقع أن تقوم به إيران مع نظام الأسد، حال نجاحها في توقيع اتفاقها مع أمريكا والغرب، ورفع العقوبات عنها، بما يمكنها من أوضاع مالية أفضل، يمكن من خلالها استمرار دعم نظام الأسد، بشكل أكبر مما هو عليه الآن.

إضافة للاعتماد على الدعم الخارجي، يعتمد نظام الأسد، على تخليه عن مسئولياته تجاه المجتمع، والتعويل على ما يصل الأسر السورية من تحويلات خارجية، من ذويهم.

  • الأثر المالي والاقتصادي لأنابيب الغاز ومشاريع الطاقة الأخرى المقترحة من قبل دول المنطقة على قابلية النظام للاستمرار.

إن بقاء نظام الأسد، سواء خلال الفترة الماضية، أو القادمة، إنما هو خيار يرتبط كثيرًا بعوامل رهن قوى إقليمية ودولية، وليس وفق خيار الشعب السوري، وإذا ما كنا نتحدث عن حصة سورية في غاز منطقة شرق المتوسط، أو غيرها من الفرص الواعدة لإمكانية الكشف عن ثروات من النفط والغاز داخل حدود الأراضي السورية وسواحلها، فإنما يأتي ذلك في ضوء سيطرة نظام سوري مستقل لا يخضع لإملاءات داعمي نظام الأسد، وبخاصة روسيا التي تحتل مناطق الساحل في سورية، والتي تعتبر ما تتمتع به سورية من ثروة في النفط والغاز امتداد لنفوذها على خريطة العالم الاقتصادية والسياسية.

فحسب تقديرات هيئة الجيولوجية الأمريكية، فإن ثروة سورية من غاز منطقة شرق المتوسط تقدر بنحو 700 مليار متر مكعب، كما أن لسورية احتياطيات أخرى من الغاز الطبيعي، وفق تقديرات أحد المراكز الألمانية، حيث تقدر ثروة سورية من احتياطي الغاز بنحو 28 تريليون متر مكعب.

وفيما يتعلق بحصة سورية في غاز شرق المتوسط، فإن الأمر يحتاج إلى توقيع سورية على قانون أعالي البحار، وكذلك الدخول في مفاوضات لترسيم الحدود مع تركيا وقبرص، وهو أمر غير متاح حاليًا، إلا إذا دفعت روسيا التي تحتل مناطق الساحل السورية لهذا الأمر.

وبالتالي فإمكانيات نظام الأسد للاستفادة من ثروات سورية من الغاز الطبيعي والنفط، محكومة بأمرين، الأول سطوة روسيا على النظام، ورغبتها في السماح أو المنع للاستفادة من هذه الثروة، وكذلك فقدان نظام الأسد لأي استثمارات تمكنه بمفرده بالتعامل مع ثروات سورية من الغاز والنفط، فضلًا عن العقوبات الأمريكية التي تمنع الشركات الأجنبية من التعامل مع القطاع النفطي في سورية.  

  • أفضل استراتيجية اقتصادية ومالية يجب تنفيذها لإحضار النظام وروسيا إلى طاولة المفاوضات وتحقيق انتقال سياسي.

تعد أفضل استراتيجية اقتصادية لإجبار نظام الأسد وروسيا إلى طاولة المفاوضات، هي تلك التي تعمل على استمرار العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر، وتوسيع دائرة العقوبات على داعمي نظام الأسد، سواء من الأفراد أو المؤسسات.

وكذلك العمل على توجيه الأفراد السوريين بالخارج، والذين يقومون بواجبهم تجاه الأهالي في الداخل، بأن تتم التحويلات لمساعدة الأسر والعائلات، بعيدًا عن الجهاز المصرفي لنظام الأسد، حتى يؤدي ذلك إلى قلة الموارد من العملات الأجنبية.

العمل على نشر ممارسات الفساد، والتفريط في مقدرات سورية الاقتصادية من قبل نظام الأسد، وبخاصة تلك التقارير الدولية، التي تتناول واقع الفساد في سورية، بما يفقد نظام الأسد القدرة على تسويق نفسه على الصعيد الإقليمي أو الدولي، من أجل استجلاب الدعم بصوره المختلفة، سواء في إطار إنساني أو دعم اقتصادي مباشر، لبرامج في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

  • لماذا يجب ألا يكون التطبيع مع الأسد من منظور اقتصادي

الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، ويشير الواقع إلى أن نظام الأسد ما كان له أن يبقى، لولا الدعم الإيراني والروسي، وبخاصة أن إيران لها دور كبير في الدعم الاقتصادي من تقديم النفط وسلع أخرى للنظام السوري.

وفضلًا عن ذلك، لقد تجرد النظام من كل صور الإنسانية، وعمل على حرق الزرع والنسل في سورية، وأية مساعدة أو تعامل معه على الصعيد الاقتصادي، سوف يؤدي إلى تقوية موقفه في أية مفاوضات مستقبلية، وبالتالي إطالة أمد معاناة الشعب السوري، والتفريض في مقدراته السياسية والمجتمعية.

كما أن وجود قانون العقوبات الأمريكية، يحد من أية صور للتعاون مع هذا النظام، وبخاصة القيود المفروضة على التعاملات المالية، ولن يكون هناك أية مبادرات لاستثمارات أجنبية في سورية في ظل نظام الأسد بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.

خاتمة

لابد من العمل على تسوية سياسية، تكون أهم نتائجها العمل على وجود نظام جديد في سورية، يستثني الأسد وبقايا نظامه، وأن يكون هنالك تصور اقتصادي يعتمد على مجموعة من المحاور الرئيسة، وهي:

  • وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح بوجود أية كيانات داخل الأراضي السورية لا تخضع لسلطة الدولة، وبما يمكّن النظام الجديد من فرض سيطرته السياسية والأمنية، وهي أهم مقومات وجود نشاط اقتصادي فاعل.
  • وحدة الموارد الاقتصادية (الطبيعية والمالية) السورية، وعدم السماح للتعامل مع تلك الثروة وفق آلية الحصص، فالواجب أن ثروة سورية، تخص جميع أبنائها دون استثناء أو تميز لفئة، ويمنع أن يكون هناك أي صورة من صور الامتياز لأية قوة أجنبية في الاستفادة من الثروة السورية.
  • العمل على استعادة الثروة البشرية السورية، من كافة دول العالم، لكي تنعم سورية بأبنائها القادرين على إعادة بنائها بشكل صحيح، عبر عطائهم العقلي والمادي.
  • ضرورة تبني خطة لإعادة الإعمار، والعمل على إفادة هذه الخطة من برامج المساعدات الدولية، والعربية والإسلامية.

وسوم: العدد 969