صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (3 + 4)
صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (3)
أوكرانيا الأوروبية أفغانستان الإسلامية
يوماً بعد آخر تغوص الأقدام الروسية الثقيلة في وحول المستنقعات والغابات الأوكرانية، بما يعيدها بسرعةٍ إلى الماضي القريب نهاية العقد الثامن من القرن الماضي، عندما غزت قواتها السوفيتية عام 1979 الأراضي الأفغانية، على أمل أن تنتهي من مهمتها بسرعةٍ، وتعود أدراجها إلى مواقعها وثكناتها العسكرية، دون أن تتورط في حربٍ طويلةٍ، واستنزافٍ مؤلمٍ، تتكبد فيه خسائر كبيرة، وتطمئن إلى تحقيق أهدافها المرجوة واستقرار الأوضاع الأمنية، بعد أن تنزع سلاح الدولة الأفغانية، وتفكك الفصائل المسلحة، وتنهي نفوذها على الأرض، وتثبت نظام نجيب الله الموالي لها في كابول.
يبدو أنها نفس الأهداف والغايات تتكرر في أوكرانيا، فقد أقدمت موسكو على تنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ واسعة النطاق في أوكرانيا، أو قامت بإعلان الحرب عليها وفق تعابير أمريكية وأخرى غربية وأوكرانية، فهي تشعر بالقلق على أمنها القومي الاستراتيجي من جهة الشرق الأوروبي، وتريد العودة إلى الاتفاقيات السابقة التي تلت تفكيك حلف وارسو، والتي قضت بعدم ضم دول حلف وارسو "السابقة" إلى حلف الناتو الغربي، ووجوب نزع أسلحتها ومحافظتها على الحياد التام، وهو ما لم يتم الالتزام به أمريكياً وأوروبياً، بل إن ما حدث هو عكس ما تم الاتفاق عليه، حيث أصبحت دول حلف وارسو القديمة، أشواكاً قاسية في حلق الدولة الروسية، ونقاط ضعفٍ في خاصرتها الأمنية والعسكرية.
لا تنفك القيادة الروسية تكرر ذات الأهداف التي أطلقتها إبان غزوها لأفغانستان، فهي تريد أن تكون الدولة الأوكرانية، التي ساهمت في إنشائها وإعلاء شأنها وتسليحها وتطوير قدراتها، دولةً محايدةً منزوعة السلاح، لا تهدد أمن روسيا القومي، ولا تتحالف مع أعدائها، ولا تستخدم أراضيها لأي عملياتٍ معادية لروسيا أو مقلقة لها، ولهذا فإنها تبحث عن ضماناتٍ حقيقية، أقلها تنصيب نظامٍ أوكراني موالي لها، يضمن أمنها، ولا يخرق الاتفاقيات الموقعة معها.
لكن يبدو أن الحسابات الروسية قد تعثرت أمام المخططات الأمريكية والأوروبية، التي تريد توريط روسيا في حربٍ طويلة الأمد، تستنزف فيها قواتها، وينهمك فيها جيشها في حروبٍ غير متناظرة، تنهكه وتتعبه، وتفككه وتضعفه، وهو ما يبدو فعلياً وعملياً على الأرض، فالعمليات العسكرية الروسية قد خفت حدتها، وتراجعت وتيرتها، وتجمدت قواتها على أطراف المدن ومداخلها، وأعيتها المقاومة الأوكرانية وأوجعتها، بعد أن زودتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا بأسلحة دقيقة وفتاكة، ومضاداتٍ متطورةٍ، تستطيع أن تصيب أهدافها بدقةٍ، وأن تلحق بالخصم إصاباتٍ بليغةٍ، الأمر الذي أربك القوات الروسية، وعَطَّل َخططها، وأَخَّرَ تقدمها، وربما سيضطرها الأمر إلى أن تعيد التفكير في خططها وآليات عملها.
وقد نشهد في الأيام القليلة القادمة، ما لم تحسم موسكو أمرها، وتتخذ قرارها، وتتمكن من اجتياح العاصمة كييف والسيطرة عليها وعلى المدن الكبرى الأخرى، وتنحية الرئيس الأوكراني الشاب، الذي غدا رمزاً وعامل وحدةٍ وطنيةٍ، تراجعاً في الأداء العسكري الروسي، وإحباطاً كبيراً بين الجنود، وخسائر مادية كبيرة وأخرى في الأرواح مكلفة، مما سيضطر القيادة الروسية لاستخدام أسلحةٍ فتاكةٍ تغير مجرى الأحداث، وتعجل في حسم المعركة، وتلجم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا على التوقف عن أعمال الدعم والإسناد والتزويد بالصور والمعلومات والإحداثيات، وتجنيد المرتزقة ودفع المقاتلين الأجانب الذين بدأوا يتوافدون بأعدادٍ كبيرة للقتال إلى جانب الأوكرانيين والدفاع عن مراكز المدن والحيلولة دون سقوطها التام.
مما لا شك فيه أن روسيا باتت اليوم أمام أفغانستان جديدة، لكنها أضحت في مواجهة خصوم جددٍ وأعداء آخرين، ليسوا إسلاميين أو متطرفين، وليسوا عرباً وأفغانيين، بل غربٌ يشبهونهم ومسيحيون مثلهم، فأوكرانيا مختلفة عن أفغانستان نسبياً، فهي دولة أوروبية "مسيحية"، قوية ومتطورة، ولديها إمكانيات وعندها قدرات، وتفهم الطبيعة الروسية وتتحدث "جزئياً لغتهم، وحاجة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية لها كبيرة.
فهي واحدة من البوابات الشرقية لأوروبا، وأحد أهم بوابات حراسته الأمنية، الأمر الذي سيجعل مبررات حرب الاستنزاف كثيرة، أقلها إشغال موسكو عن أي مواجهة أمريكية محتملة مع الصين أو إيران، ومنعها من أي تدخلٍ في أي حربٍ محتملةٍ معهما تأييداً أو مساعدةً لهما، فهل سيطفو الدب الروسي على سطح المستنقع الأوكراني، وستنجح موسكو في مهمتها وتتجنب المؤامرة الغربية عليها، أم ستسيخ أقدامها وتغرق عميقاً في المستنقعات الخطرة، وستلحق بها اللعنة الأفغانية إلى قلب أوروبا.
صفحاتٌ من الحربِ الروسيةِ الأوكرانيةِ (4)
جنونُ الأسعارِ وشجعُ التجارِ
كأنهم كانوا على موعدٍ معها وفي انتظارٍ لها، فما إن اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وبدأت العمليات العسكرية تشتد والمعارك بينهما تحتدم، حتى بدأت نُذُرُ أزمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ تلوح في الأفق، وتتراءى لسكان العالم كلهم، الذين أسرعوا إلى الأسواق والمحال التجارية، يشترون كل شيء، ويخزنون كل ما يجدون، ويتسابقون في الحصول على أقصى ما يستطيعون.
فالحرب الدائرة قد تتسع دائرتها، وقد تطول مدتها، وتتعقد تسويتها، مما جعل سكان العالم يشعرون بالخوف مما يجري، ويسكنهم القلق من التالي، خاصةً أن روسيا وأوكرانيا تشكلان معاً أهم مصادر القمح والغاز، ليس لأوروبا وحدها الفقيرة بالغاز، بل للكثير من دول العالم الجائعة للقمح والدقيق، والتي تنتظر بواخرها يومياً أن تعود من موانئ روسيا وأوكرانيا محملةً بالقمح والحبوب الأخرى.
قد يكون تصرف المواطنين عموماً تصرفاً فطرياً مقبولاً، فالإنسان في الحروب والمحن، وفي مواجهة الحصار والعقوبات، يلجأ إلى الحفظ والتخزين، والاستزادة مما يحتاج إليه احتياطاً للأيام القادمة، التي قد تحمل معها مجهولاً أشد وظروفاً أصعب، وقد تطول المحنة وتستمر الأزمة، لكنه يلجأ إلى جانب الجمع والتكديس والادخار والتوفير، إلى ترشيد الاستهلاك وضبط الإنفاق، وتنظيم الحاجات وإعادة ترتيب الأولويات، مؤقتاً إلى أن تنتهي المحنة وتزل الغمة، وتتوقف الحرب ويسود السلام من جديد.
لكن التجار عموماً ورجال الأعمال الذين يتحكمون في التجارة الخارجية ويهيمنون على الوكالات الحصرية، سواء كانت نفطاً أو غازاً، ودقيقاً أو حبوباً وغيرها، وجدوا ضالتهم المنشودة في الحرب الدائرة، وشعروا بأنها فرصتهم الذهبية للإثراء والغنى، ومضاعفة الأسعار ومراكمة الأموال، فأيقظوا شياطين الجشع وأبالسة الاحتكار، وفرضوا شروطهم القاسية على الأسواق الوطنية والعالمية، وأخضعوها لجشعهم وطمعهم، فغابت سلعٌ أساسية من الأسواق، وارتفعت أسعار أخرى بنسبٍ عاليةٍ، وحلقت أسعار النفط والغاز في كل مكانٍ، وانعكس ذلك كله ارتفاعاً كبيراً على أسعار كل السلع ومختلف الخدمات.
ليست الحرب الروسية الأوكرانية هي الحرب الأولى في السنوات الأخيرة، فقد اندلعت حروبٌ وتفجرت أزماتٌ في أكثر من مكانٍ في العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون وغيرهم، هم الذين يقفون وراء تفجير الحروب وتصدير الأزمات، وزرع الفتن وخلق الصدامات، ولكن هذه الحروب لم تخلق أزمةً اقتصاديةً، ولم تتسبب في مجاعة عالمية، ولم تهدد الأمن والاستقرار العالمي في أكثر من مكان، بل اقتصرت آثارها على المنطقة ومحيطها، بينما نَعُمَ العالم في غيرها بالأمن والسلام والاستقرار.
هذا يقودنا حتماً إلى أن هناك من يخطط ويدبر وينظم ويوجه، ويريد قصداً أن يدخل العالم كله في أزمة اقتصادية كبيرة، وأن يهز الأمن ويهدد الاستقرار العالمي، ويشكل رأياً عاماً عالمياً دولياً مع فريقٍ وضد آخر، رغم أنني لا أقلل أبداً من تداعيات الحرب الطبيعية، فلكل حربٍ تداعياتها وآثارها، وانعكاساتها السلبية على أطرافها والمحيطين بها، خاصةً إذا كانت الحرب تنذر بحربٍ عالمية، وتستخدم فيها أسلحة فتاكة مدمرة، تحدث تغييراً حقيقياً على الأرض، وترسم في السياسة مساراتٍ أخرى.
إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد الاستفادة من كل المعطيات، وتسخير كل القدرات وتوظيف كل الظروف، خدمةً لها، وتنفيذاً لأهدافها، وحرصاً على مصالحها الخاصة، وهي التي لا تتردد في قتل شعبٍ بأكمله، وتدمير بلادٍ على أهلها، ونهب خيراتها وتخريب اقتصادها، ولا يعنيها ملايين الضحايا وحجم الخراب والدمار الذي تخلفه وراءها، وهذا ما رأيناه جلياً في عدوانها على العراق، الذي اتهمته لتغزوه، وضيقت عليه وحاصرته لتضعفه، وكذلك أفغانستان وغيرها.
لا أبرئُ الكيان الصهيوني من هذه المؤامرة، التي يتحكم فيها رأس ماله الكبير، وشركاته العملاقة متعددة الجنسيات، التي تنشط غالباً في ظل الحروب وأثناء الأزمات، وتجد نفسها خلالها قادرة على فرض إرادتها وطرح شروطها، وتاريخهم في الحروب العالمية والأزمات الدولية يؤكد أنهم لا يظهرون إلا لمزيدٍ من التأزيم، أو للسيطرة وقطف الثمار، وتحقيق أكبر المكاسب السياسية وأكثر المنافع المادية.
لستُ موالياً لروسيا ولا مؤيداً لها في غزوها لدولةٍ يعلن رئيسها أنه مظلومٌ كما إسرائيل، وأنه يؤيدها ويقف معها في حربها وعدوانها على الفلسطينيين، ولا أُبرئُها من تحمل جزءٍ من المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن ما يحزنني ويؤلمني كثيراً أن أسواقنا العربية سبقت غيرها، وأعلنت رفع أسعار بضائعها قبلهم، وربما أكثر من سواهم، الأمر الذي انعكس سلباً على شعوبنا، وقهراً لأهلنا، وضاعف من معاناتهم المستأصلة وأزماتهم المستفحلة، وقد كان حرياً بتجارنا، ونحن على أبواب شهر رمضان الفضيل، شهر الخير والإحسان والعمل الكريم، أن يكونوا رحماء بأهلهم وبارين بهم، ومخلصين لشعوبهم وحريصين على أوطانهم.
وسوم: العدد 973