العرب لا يملكون شروط الاستفادة من الحرب الروسية _ الأوكرانية

يتوهم بعض المواطنين والساسة وأهل الرأي بيننا أن العرب سيكونون أكبر الرابحين من الحرب الروسية _ الأوكرانية التي لم تنتهِ بعدُ ، أو تضع أوزارها ، أثقالها ، بالتعبير التقليدي الشهير ، ويتوسعون في توهمهم فيستنتجون أن إسرائيل ستكون أكبر الخاسرين مع أميركا والناتو . ومصدر توهمهم الذي نتمنى أن يكون واقعا وحقيقة أن إسرائيل أساءت إلى روسيا بانحيازها إلى أميركا والناتو في الحرب ، وأن روسيا ستعاقبها ، فتعود معاقبتها على العرب بالنفع كأن توقف تنسيقها معها الذي يسمح لها بضرب سوريا وحليفيها ، إيران وحزب الله ، ومصدر آخر لتوهمهم هو أن ارتفاع أسعار النفط جلب ثروة كبيرة للدول العربية التي تنتجه ، والمصدر الثالث ظنهم المتحمس أن النظام السعودي قد يتحول عن تسعير مبيعات نفطه من الدولار إلى اليوان الذهبي الصيني  ، على الأقل ما يباع من هذا النفط إلى الصين ، والمصدر الرابع للتوهم أن أميركا آخذة في الضعف والانزياح من كينونتها القوة الأولى عالميا ، وأن دول الناتو بدأت تكره أميركا لما جلبته عليها من ضعف وتمزق ظهرا واضحين في العجز عن فعل شيء حقيقي يردع روسيا عن الهجوم على أوكرانيا المتلهفة على الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي للانسلاخ من الأفق الروسي . وأكبر التوهمات أن العرب وقفوا في الحرب الروسية موقفا موحدا أقرب إلى روسيا ولو لم يفصح بعضهم صراحة عن موقفه . 

ونناقش تلك المصادر للتوهم العربي . صحيح إسرائيل ظهرت في المجمل مسيئة لروسيا حين وصف لبيد وزير خارجيتها الهجوم الروسي بالغزو ، وحين جنح إعلامها الوثيق الصلة بالمؤسستين  العسكرية والسياسية فيها إلى وصف بوتين بالمجرم متابعة لوصف أميركا له ، وحين رفض رئيس الكنيست إعطاء روسيا موافقته لإسماع  رأيها في الحرب مثلما أعطى زيلينسكى موافقته لإسماع رأي أوكرانيا فيها ، ورغم تلك الصحيحات حرصت إسرائيل على أن تمسك العصا من وسطها أو ما هو قريب من وسطها ، فلم ترسل أسلحة إلى أوكرانيا مثلما أرسلت أميركا وبعض دول الناتو ، ورفضت استقبال اللاجئين الأوكرانيين دون تأشيرة ، وأعادت غير اليهود منهم من المطار ، ولم يصدر عن روسيا ما يدل على أي تحول حقيقي حاسم في معاملتها الجيدة لإسرائيل ، وتنسيقها العسكري في سوريا باقٍ على حاله ، وفيها 600 ألف يهودي يهيمنون على كثير من مفاصل الاقتصاد والصناعة والسياسية  ، ولهم تأثيرهم الفعال في توجهات السياسة الروسية نحو إسرائيل . وارتفاع أسعار النفط ستكون فائدته مقصورة على الدول العربية التي تنتجه ، ورأينا كيف بددت هذه الدول ثرواتها المالية دون أن تنشىء صناعة وطنية أو تبني قوة عسكرية تحميها بدلا من الاعتماد على الحماية الأميركية والأوروبية ذات التكاليف المالية والسياسية الضخمة ، ويتجه بعضها الآن إلى الحماية الإسرائيلية  التي ستكلفها أثمانا مالية وسياسية مدمرة دون أن يكون لها نجاعة الحماية الأميركية والأوروبية . ولا نتحدث عن دور مال دول النفط ، ونعني الخليجية ، في تخريب العالم العربي في ثوراته الأخيرة ، في سوريا وليبيا ومصر واليمن ، حتى إسرائيل استفادت سابقا من هذا المال في جوانب كثيرة عسكرية واقتصادية سرية ، وهي الآن في سبيلها لاستفادات لاحدود لها بعد تطبيعها مع الإمارات والبحرين علنا ، وبلاد الحرمين سرا أقرب إلى العلن ، ومن المنتظر أن يكون رسميا في وقت قريب . ولم يعرف التاريخ مالا أنزل أفدح الأضرار بأمته مثل مال دول النفط الخليجية . وتحول النظام السعودي إلى اليوان الذهبي الصيني لتسعير مبيعاته النفطية ليس مؤكدا حتى للصين نفسها ، ولم يظهر منه حتى الآن ما يدل على نيته هذه ، وظهر نقيضها حين نفى مصدر سعودي لصحيفة " ذا اندبند نت " العربية الوثيقة الصلة بالرياض طرح هذا الموضوع للنقاش ، وأكثر من هذا لم يفعل النظام السعودي  ما فعلته الكويت التي سعرت مبيعاتها النفطية بسلة عملات إحداها الدولار ، ولن تسكت أميركا عن تحوله عن دولارها  لو فكر فيه أو أقدم عليه فعليا ، وتملك وسائل كثيرة لردعه عنه ، وهو لن يغامر بالتعرض لهذا الردع ، فوق إدراكه الكامل أن أميركا هي الحامي الأول لبقائه في الحكم المطلق في بلاد الحرمين . الحروب أكبر صانع للتحولات التاريخية الكبرى في الجغرافيا والسياسية والاقتصاد وموازين القوى وكل نواحي الحياة الإنسانية . رأينا هذا في التاريخ الحديث في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية التي كان من أكبر تحولاتها الباقية الهيمنة الأميركية التي ما زالت مشهودة مؤثرة على ما أصابها من انزياح ملحوظ .  ويتوقع كثيرون انسجاما مع المتوالية التاريخية لكبر التحولات التاريخية التي تصنعها الحروب أن تصنع الحرب الروسية _ الأوكرانية تحولا كبيرا في العالم ، وهذا صحيح حتمي ، وإنما تبقى القضية الأساسية كيفية استفادة كل دولة أو كتلة من هذا التحول ، وكيفية تلافيها لما قد يهددها منه ، ونحسب أن أميركا والناتو سيحرصان على الخروج من زمن هذه الحرب قويين ، وهما يملكان الخبرة والوسائل على طريق هذه القوة ، وفي الأقل سيصدان كل موجات إضعافهما ، وروسيا ستفعل ذات الشيء وهي أول المعنيين بالحرب ، وستكون تركيا مستفيدا كبيرا منها ، وكذلك إسرائيل ، وأما العرب ، على مستوى دولهم المختلفة ، فإن لم يكونوا خاسرا كبيرا فقد يخرجون بحال " لا علي ولا لي " ، ومن الخطأ القاتل في صحة تحليل الأحداث واستنتاج الرأي في مآلاتها أن نتحدث عن العرب  بصفتهم كيانا واحدا ذا قيادة واحدة وإرادة واحدة وسياسة واحدة مثل بقية دول العالم . إنهم 22 دولة ، وكل دولة لها قيادتها وإرادتها وسياستها ، والعداوات والنزاعات بين كثرتها لا تخبو نارها . وليس لهم مؤسسة جامعة ملزمة في قراراتها ومواقفها مثل الناتو أو الاتحاد الأوروبي ، وجامعتهم لا تستحق الوصف بأنها جامعة ، بكل البساطة والوضوح : العرب  لا يملكون شروط الاستفادة من الحرب الروسية _ الأوكرانية ، ولكل استفادة شروط ، ولا ينفع في حيازتها التوهم أو التمني ، والاثنان من عالم نفسي وذهني واحد . وحديثنا عن عجز العرب عن الاستفادة من الحرب بين روسيا وأوكرانيا أبعد ما يكون عن الانتهازية واستثمار دماء ضحايا هذه الحرب وآلامهم وتشردهم من بيوتهم ووطنهم ، ويفرحنا أن تنتهي هذه الحرب عاجلا ، وكل ما في الحال أن هذه الحرب واقع ، وتأثيراتها عالمية ، ولا نريد أن نكون خاسرين في جو هذه التأثيرات ، وأن يكون عدونا إسرائيل رابحا كبيرا فيها ، ولكن قصور العرب وتفرقهم ينأيان بنا عن المراد .   

                                     *** 

من غرائب أصداء هذه الحرب في إسرائيل أن 15 % من مستوطنيها طلبوا دعما نفسيا علاجا لما ضرب أرواحهم من الرعب  خلال مشاهدتهم أحداثها في وسائل الإعلام ! يعنى " رعب على الرائحة " ، وما حدث لهم تفسره الحكاية الرمزية التي تروى عن مدينة حل بها طاعون ، فأهلك نصفها ، وسمعت به مدينة مجاورة ، فهلكت كلها . وإنما يبقى سؤال : كيف يهيمن هؤلاء الجبناء الرعاديد علينا ؟! الجواب العاجل : نحن السبب الأول ، والأعور دائما سلطان في بلاد العميان .  

                                 *** 

غضب الإسرائيليون غضبا عارما من تشبيه زيلينسكي في خطابه الذي وجهه للكنيست ما تفعله روسيا في بلاده ب "  محرقة اليهود " في الحرب العالمية الثانية ، وصنفوه خطابا فاحشا في فظاظته . هذا إصرار على احتكار المآسي والويلات لا يريدون أن يقاسمهم فيه أحد ، فالمحرقة التي جعلوا  ضحاياها ستة ملايين زورا وبهتانا ، ويقدرها مؤرخ يهودي بنصف مليون ؛  كانت دائما بقرة حلوبا يسنزفون بها المال والتعاطف وكف البصر عن المأسي والويلات التي نكبوا بها الشعب الفلسطيني وكثيرا من العرب على براءتنا المطلقة من تلك المحرقة . أوروبيون أحرقوا عددا منهم يدينون باليهودية ، فجاء من سلم منهم إلى فلسطين ، واغتصبوها . عاقبوا من لم يؤذهم . وكانوا في ألمانيا يضعون لوحة على بيت كل يهودي يأتي إلى بلادنا ، ويكتبون عليها : " هاجر إلى فلسطين " ، وشاهدت من شهور فيديو لشابة مصرية مقيمة في ألمانيا تشير  إلى إحدى هذه اللوحات ، وتقول بصوت يخنقه البكاء : " لكن ربنا كبير . " . كانت صورة عظيمة نبيلة لشعب مصر العظيم النبيل الوفي ، وإشارة  ساطعة راسخة إلى أن فلسطين ليست إسرائيل ، وأن إسرائيل نبت شيطاني شرير لا نماء ولا بقاء له في تربة فلسطين العربية .

وسوم: العدد 973