شهر رمضان نهاره صيام وانتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله عز وجل وليله قيام
شهر رمضان نهاره صيام وانتشار في الأرض وابتغاء من فضل الله عز وجل وليله قيام وذكر وعلم وتعلم فمن صرف أيامه ولياليه في غير هذا ضيّع جائزته
من لطف الله عز وجل ورحمته ببني آدم وقد خلقهم خطّائين تمكينهم من فرص يومية، وأسبوعية، وسنوية، وعمرية للتخلص من أخطائهم ، فجعل الصلوات الخمس مكفرات يومية لما يرتكب من خطايا بينها ، وجعل الجمع مكفرات أسبوعية ، وجعل رمضان مكفرا سنويا ، وجعل الحج مكفر العمر .
وأهل الإيمان الأكياس يتشوقون إلى هذه الفرص الممنوحة لهم على اختلاف فتراتها الزمنية للتخلص من أوزار المعاصي ، وهي منح إلهية لا تقدر بثمن ، والغافلون عنها والمضيعون لها لا كياسة لهم ، وهم يحرمون أنفسهم من خلاصها مما يوبقها .
والأكياس يستبشرون بحلول شهر الصيام ، ويترقبونه بلهف ، ويسألون ربهم أن يبلغهم إياه لعظيم المنحة الإلهية فيه والتي يرجونها ويتشوقون إليها مع حلوله كل عام . والغافلون يستوي عندهم هذا الشهر بغيره من الشهور ، وربما قد يكون منهم من يتبرم من حلوله ، ويرى المشقة في عبادة الصيام والقيام ، ومنهم من يعتبره شهر شهوة البطن ، فيستعد له باقتناء مختلف المأكولات والمشروبات يدخرها ادخارا ، وينشغل بها بل يتفرغ إليها تفرغا دون أن يكون همه هو تعرض نفحات رمضان الإيمانية ، والرغبة في جائزته الكبرى ، وهي المغفرة التي وعد بها الله تعالى الصائمين والقائمين إيمانا واحتسابا ، وبشر بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .
وأكثر الغافلين غفلة من يستعدون فيه للهو والعبث والسهر ليلا ، والنوم الثقيل العميق نهارا . وأكثر غفلة منهم من يرفضون صومه ، ويطالبون بحرية الإفطار فيه علما بأنه لا أحد يمنعهم من الإفطار وهم خلف أبواب بيوتهم إلا أنهم يصرون على إعلان وإشهار إفطارهم ،ودعوة غيره للحذو حذوهم متعمدين مخالفة ما شرع الله عز وجل والمساس بمشاعر الصائمين، وهؤلاء قوم سوء . وأكثر منهم سوءا من يرخصون لهم ذلك ويشجعونهم عليهم ، ويوفرون لهم الحماية ، وزمام الأمور بأيديهم ، وقد أوكل إليهم الله عز وجل سلطة حماية دينه من كل من أو ما يروم النيل منه بشكل أو بآخر .
ومن المعلوم أن الله عز وجل جعل لجائزة الصيام ، وهي مغفرة ما تقدم من ذنب ـ وما أكثر ذنوب العباد ـ ثمنا وهو الإيمان والاحتساب ، وهما ما يترجمهما إنفاق أيام رمضان في عبادة الصوم دون أن يعتريه ما يفسده مما نهى عنه الله عز وجل و رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفث أو صخب أو إتيان الزور قولا وعملا ... مع الانتشار في الأرض والابتغاء من فضله سبحانه وتعالى دون تكاسل أو تراخ أو تقصير أو غش في القيام بالواجب ... وكل ما من شأنه أن يفسد هذا الابتغاء ، فيخرجه مما أحل سبحانه وتعالى إلى ما حرّم كل حسب طبيعة سعيه خدمة ، ووظيفة، وتجارة، وزراعة ،وحرفة وتعلما ... وإنفاق لياليه في عبادة القيام أول الليل وآخره ، وفيما قد يكون بين ذلك من ذكر، وتسبيح ، وحمد الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ، أوالاشتغال بالعلم والتعلم . وكل من لم يصرف أيام وليالي رمضان في هذا ، فشأنه كشأن من يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه .
ولقد دأب بعض المفسدين الذين يتعمدون إفساد شهر الصيام على المؤمنين أن يعدوا له من البرامج التلفزية أنواعا وأصنافا تستهلك نهار وليل رمضان ، وكلها عبث وهراء لا طائل من ورائها سوى صرف الصائمين عن صلواتهم الخمس وعن قيامهم . وأما ما في تلك البرامج مما يفسد الصوم، فحدث ولا حرج . وهذه البرامج العابثة التافهة تعد سلفا كما تعد أنواع الأطعمة والأشربة ، وتشهر قبل حلول شهر الصيام لإغراء الناس بمتابعتها وحرمانهم من جائزة الصيام بل لتوريطهم في ذنوب أخرى تثقل أوزارها كواهلهم، علما بأنه من فضل الله تعالى على العباد في رمضان مضاعفة الجزاء والأجر في اقتراف الحسنات ، ومن عذابه مضاعفة العقاب في اقتراف السيئات . ومن السيئات الانشغال بالبرامج العابثة التافهة في أوقات خصصها الله تعالى لعبادة الصيام والقيام . وكيف يعتبر الصائم صائما وعينه تقع في متابعته لتلك البرامج على ما نهى الله تعالى عنه مما يثير في الأنفس الشهوات ، ويفسد الصيام ، وأذنه تسمع ما لا طائل من ورائه بل قد تسمع حتى المنهي عنه شرعا من سخرية واستهزاء بالخلق والتندر بهم
ومما يضيع على الناس جائزة الصوم هو جعل همهم اليومي التفكير في الطعام والشراب، وصرف أوقات طويلة في اقتنائه وإعداده مع أنه من المفروض أن يقل التفكير فيه في شهر خاص بالإمساك عنه لتصفو النفوس من ضغط شهوتي البطن والفرج اللتين يقويهما الطعام والشراب .
وقد يسيء البعض فهم ما يراد بعدم صرف الهمم إلى التفكير في الطعام والشراب ، ويحتجون بقول الله تعالى : (( قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )) ، وهي حجة حكمها حكم الحق الذي يراد به الباطل، ذلك أن الله تعالى مع ما أحل للعباد من الطيبات فقد قيّد إقبالهم عليها بترك الإسراف فيها ، وهو ما لا تلتزم به الكثرة الكاثرة من الصائمين حيث تفوق أصناف الطعام والشراب التي توضع على موائد الإفطار في رمضان ما يوضع عليها في غير رمضان ، وهو ما يعني الإسراف والتبذير من جهة ، ومن جهة أخرى يدل على انصراف الهمم إلى شهوة البطن عوض انصرافها إلى عبادة الله عز وجل صياما وقياما فضلا عن كون تلك الموائد لا يحضرها المحاويج ولا يطعمون منها في حين يدعى إليها من أغناهم الله تعالى عنها ،يكون القصد هو المباهاة بها. وتدفع وسائل الإعلام في اتجاه التشجيع على كثرة التسوق في الأسواق لاقتناء الأطعمة والأشربة ، ومنها ما لا يسوق إلا في شهر الصيام، وهو مما يقوي شهوة البطن ، وقد تستجوب تلك الوسائل عمدا بعض المتسوقين فيفاخرون بكثرة الإنفاق مع أنهم يشكون من غلاء المعيشة خصوصا ونحن في فترة غلائها غير المسبوقة بسبب ما يمكن تسميته بمؤامرة دول عظمى لتكريس الغلاء بذريعة الحرب الدائرة في أوكرانيا عن عمد وسبق إصرار ، وتدل على ذلك أدلة واضحة لا غبار عليها والتي لم تعد خافية على أحد .
ومما يضيع جائزة الصوم كثرة النوم نهارا، وتعطيل الابتغاء من فضل الله تعالى من خلال الإخلال بالقيام بما يوجبه الواجب ، والسهر ليلا في المقاهي، والأماكن العمومية وغيرها بل وحتى في البيوت سهر يصرف في غير قيام أو ذكر أو علم وتعلم أو عمل يرجى من ورائه نفع أو فائدة . وقد يتذرع البعض بالقيام بواجبهم ليلا لأنهم لا يطيقون القيام به نهارا وهم صائمون ، وهو ما يعني تضييعهم لعبادة القيام .
ومما ابتلي به الناس في هذا الزمان هوس رياضة كرة القدم غير المسبوق ، والتي تبرمج مبارياتها في أوقات الصلوات المفروضة وصلاة القيام في رمضان فتصرفهم عتها، وقد كانوا يسألون الله تعالى أن يبلغهم رمضان ، فلما بلغهم إياه انصرفوا عنه إلى اللهو واللعب .
ومما ابتلوا به أيضا من الموبقات لعب الورق وما شابه ، ومنه أنواع من القمار تستغرق ليالي رمضان ، فيصبحون (صياما ) وقد باتوا على معصية المقامرة ، وربما كسبوا منها حراما أنفقوه من أجل شهوة البطن ، فأنى لهم الظفر بجائزة الصيام ؟
ومن الناس من يتعمد صرف أوقات القيام في ممارسة بعض الرياضات في قاعات خاصة بها أو في غيرها من الأماكن ، وكذلك يزين لهم الشيطان أعمالهم . ومنهم من لا تسعهم بيوتهم ذكورا وإناثا بعد نهاية عبادة القيام في المساجد، فيخرجون للتجوال إلى ساعات متأخرة من الليل .
وشر المعاصي ما يقدم عليه بعض شرار الناس ،وهو إتيان فاحشة الزنى في ليالي رمضان ، وقد يكون هؤلاء ممن يصمون نهارا ، ويزنون ليلا والعياذ بالله. وأخيرا نسأل المولى جلت قدرته أن يبلغنا شهر رمضان ويعيننا على صيامه وقيامه على الوجهة الذي يرضيه ، وأن يجنبنا ما يفسدهما علينا من قول وفعل رحمة بنا ، ونسأله ألا يحرمنا بفضله وجوده وكرمه جائزة الصيام الكبرى .