أوكرانيا تتراجعُ وفلسطينُ تتقدمُ
انشغل العالم كله على مدى أكثر من شهرين بالأزمة الروسية الأكرانية، التي انفجرت حرباً مدويةً وقتالاً ضارياً واجتياحاً واسعاً للأراضي الأوكرانية، وانصرفت أذهان قادة العالم كله، وعواصم القرار الدولي الكبرى إلى العملية العسكرية الروسية الواسعة النطاق، ونتائجها وتداعياتها على أوروبا وعلى النظام العالمي القديم، وألقت يوميات الحرب الدامية تداعياتها القاسية على الاقتصاد العالمي، وعلى أسواق النفط والغاز، وبدأت موجة عالية من الغلاء وجنوحاً مقيتاً نحو الاحتكار، مما أقلق الأنظمة والحكومات، وأخاف الشعوب والأمم، حتى غدت يوميات الحرب وتفاصليها، وتداعياتها وآثارها، هي الحدث العالمي الأول، التي يتصدر الأخبار ويسبق الأنباء، ويطغى على كل حدثٍ آخر.
شعر الفلسطينيون ببعض القلق، وانتابهم خوفٌ من أن يستغل العدو الصهيوني انشغال العالم كله بالحرب الروسية الأوكرانية، فيعمد إلى تنفيذ برامجه وتطبيق مخططاته القديمة الجديدة، سواء فيما يتعلق بالمسجد الأقصى المبارك، أو البلدات المقدسية وسكانها، ومصادرة أرضهم وهدم بيوتهم وترحيلهم من بيوتهم، أو يعمد إلى شن عملياتٍ عسكريةٍ موضعيةٍ ضد أهدافٍ محددة للمقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وغير ذلك مما يمكن توقعه من محتلٍ غادرٍ ماكرٍ خبيثٍ، يحاول دوماً استغلال كل الفرص والاستفادة من كل الظروف خدمةً لأهدافه وتحقيقاً لأغراضه.
زاد من قلق الفلسطينيين وخوفهم غيابُ القضية الفلسطينية عن صدارة الأحداث، وتراجع الخبر اليومي الفلسطيني، رغم أنه خبرٌ دامٍ وموجعٍ، وفيه من المآسي والآلام الشيء الكثير، إذ لا يمر يومٌ لا يقوم فيه العدو الإسرائيلي بارتكاب جريمةٍ جديدةٍ تضاف إلى جرائمه الكثيرة والمتنوعة، وفاقم القلق لديهم وضاعفه هرولةُ بعض الأنظمة العربية للانفتاح على الكيان الصهيوني، وعقد اجتماعاتٍ معه، وتنظيم لقاءاتِ قمةٍ سنويةٍ تجمعهم به، وإبرام اتفاقياتٍ أمنية وعسكرية معه، في الوقت الذي يرون فيه جرائمه ويسكتون عنها، ويلمسون معاناة الشعب الفلسطيني ويشيحون بوجوههم عنها، ويصرفون النظر عنها وكأنها لا تعنيهم.
إلا أن الفلسطينيين الذين يؤمنون بعدالة قضيتهم، وشرف مقاومتهم، ويضحون في سبيلها، ولا يترددون في بذل الغالي والنفيس من أجلها، يعتقدون أنها قضية مقدسة، قد باركها الله عز وجل وبارك أهلها، وخص ببركته المقاتلين من أجلها والمرابطين فوق ثراها، وأنه سبحانه وتعالى يكلأها بحفظه، ويحفظها برعايته، ويقيض لها من حينٍ إلى آخر من يحفظها حيةً، ويبقيها حاضرةً، ويعيدها إلى الواجهة دوماً، مهما حاول البعض، أشقاءً أو أعداءً، أن يطمسوها ويغيبوها، أو أن يحجبوا عنها الأضواء ويخفوها، إلا أن جهودهم دوماً تبور وتخسر، وتبوء مؤامراتهم وتفشل، ويخرج من الأرض المباركة، شبانٌ وشاباتٌ يعيدون البريق إلى قضيتهم، والألقَ إلى مقاومتهم، ويسلطون الأضواء على معاناة شعبهم وحقوقه، ويفضحون العدو ويكشفون سوأته، ويظهرون ضعفه ويسلطون الضوء على عجزه.
عملياتٌ ثلاثةٌ فقط، في النقب والخضيرة وتل أبيب، نجحت في قتل أحد عشر مستوطناً وجندياً إسرائيلياً، وأصابت عشرات آخرين بجراحٍ متفاوتةٍ، استطاعت أن تعدل البوصلة، وأن تصحح المسار، وأن تعيد العالم كله والعدو معه إلى القضية الأولى والأهم في العصر الحديث، والتي لا يجوز الانشغال عنها بغيرها، وتقديم سواها عليها، وقد كان للفلسطينيين ما أرادوا، وحققوا غايتهم الشريفة، وأفشلوا ما عمل العدو وأعوانه على تحقيقه، فعادت القضية الفلسطينية براقةً تتصدر النشرات الإخبارية، وحيةً تشغل المسؤولين والقادة، وتقلق الأمنيين والعسكريين والمفكرين ورجال الإعلام وغيرهم، الذين كانوا يظنون أنهم طافوا على لجة الحرب الأوكرانية، وعاموا على موجة التطبيع العربية، وقمم التنسيق الأمنية والعسكرية المشتركة.
مخطئٌ من يظن أن الفلسطينيين سيصيبهم اليأس من الأحداث الدولية الكبرى، وستدفعهم للقنوط والانزواء الحروبُ العالمية والأزمات الدولية، وسيشعرهم باليتم والغربة تخلي بعض الأشقاء عنهم وانقلاب غيرهم عليهم، وسيعترفون بضعفهم ووحدتهم، وسيسلمون للعدو وسيخضعون له، وسيتركونه عن ضعفٍ وعجزٍ يجمع ثمار الحروب وغلة الانشغال، من شعبهم وأرضهم وحقوقهم بسهولةٍ ويسرٍ.
وما علموا أن سلة الفلسطينيين دوماً عامرة بشتى أنواع المقاومة وأساليب القتال وفنون المواجهة، وأنهم يفاجئونه دوماً بكل جديدٍ، ويجترحون من أرضهم المباركة كل سلاحٍ ماضٍ وعزمٍ أكيدٍ، ولعل عدوهم اليوم أشدُ خوفاً من أمسِ، وأكثر قلقاً من ما قبل الحرب، يتساءل بتخبطٍ أعمى وجهلٍ أخرقٍ، ماذا بعدُ وأين، وما القادم وبأي سلاحٍ، ومن هم الضحايا الجدد وكم عددهم، وهل نستطيع صدهم أم فقط سنكتفي بجمع القتلى ونقل الجرحى، ورفع الصوت بالتهديد والجأر بالشكوى والوعيد.
وسوم: العدد 975