ثقافة حديثية ميسرة 2 - 6

ثقافة حديثية ميسرة – 2

علوم الإسلام:

ذكرنا من قبل حقيقة "أن ما كل ما صح سندا، صح متنا". وكان المقتضى المكمل الذي يجب أن يذكر بعده: وما كل حديث صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب أو جاز العمل به. فاحفظ هذا ولكن مع فقه.

ولما كانت هذه القاعدة العلمية المتوافق عليها عند أئمة الشأن، مثل اللقمة الكبيرة، والجافة تحتاج إلى تيسير ومضغ وتليين، حتى لا يغص بها من يبتلعها؛ أنصحك أن تعقد عليها، ثم نمهد لها معا في أفقين، الأول في معرفة "المجتهد المطلق" من علماء أهل الإسلام. والثانية في معرفة "المحدث" وإجراء موازنه اعتبارية بين الثاني والأول، لإدراك السر في قولنا "ما كل حديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجب أو جاز العمل فيه. وأن الأمر ليس رغبة عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل عمل على تحقيق مراد الرسول الكريم"..

ولمعرفة " المجتهد المطلق" وهي طبقة محدودة جدا من رجالات الإسلام وعلمائه، منها الأئمة الأربعة المتبوعون، ومنها عشرات من الأئمة من غيرهم كانوا في خير القرون، ثم يقتضي الأمر أن يكونوا في كل عصر من العصور؛ أقول ولمعرفة هؤلاء يقتضينا الأمر أن نعرف ولو عناوين عن علوم أهل الإسلام.

وأول هذه العلوم فيما نذكر، علم "معرفة الله" سبحانه وتعالى. وحدانيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله. وما ورد في كتاب الله من إخباره عن ذاته، وطريقة فهمه وتنزيله، وكل ذلك عرف عند المتقدمين بأسماء: علم الكلام- علم أصول الدين- علم الإلهيات- قاعدته الأساسية قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفروعه بحر لا يقاربه إلا الواثقون.

ثم علم التفسير، تفسير القرآن الكريم، والإحاطة بمعانيه. وأصل التفسير من الفسر. والفسر استخراج اللب من القشرة. والمعنى من اللفظ. وهو علم علوم ومناهج وطرائق، منها التفسير بالمأثور، ومنها تفسير الأحكام، ومنها التفسير البياني، ومنها التفسير الكلامي,,

ثم علوم القرآن، الكتاب الكريم، وهو علم علوم أيضا يدرس تنزيله، وتنجيمه، وسابقه ولاحقه وناسخه ومنسوخه..

ثم علم الحديث الشريف ، رواية ودراية ويتأسس على علم الرجال الصحابة والتابعين ومن يليهم، ومعرفة تاريخ حياة الرواة، وعلم الجرح والتعديل وقواعده،

ثم علم "الاستنباط" أو علم أصول الفقه وقواعده..

 وهو العلم الذي سبقت إليه أمة الإسلام منذ ألف وأربع مائة، ويسمى في هذا العصر "علم مناهج البحث" ، وتضع لكل علم من العلوم الرئيسة منهجا أو مدخلا للبحث فيه. وتشترطه الجامعات المرموقة أن يدرس في عام مستقل كمدخل شرطي للبحث في كل علم.

ثم علم الفقه وقول الإنسان العالم المستجمع لشروط البحث والعلم عن الله سبحانه وتعالى: هذا حلال وهذا حرام.

ثم علم السير، مما كان عليه حال أهل الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي عهد خلفائه الراشدين، وبقية ملوك الإسلام المرضيين.

ثم علم الفرائض الموسوم بعلم المواريث، الذي استقل البحث فيه عما سواه ..

وينضاف إلى كل ذلك طائفة من العلوم تزيد على العشرة يسمونها علوم الآلة مثل علم النحو والصرف واللغة والبيان والبلاغة والحقيقة والمجاز وعلم أشعار العرب وأيامها وطرائقها وعوائدها ...

أختم ولعلي قد أطلت وقد أوجزت، والتعريف بكل علم من هذه العلوم حدها- ومضمونها- ومبادئها- يحتاج إلى وقفة، أختم لأقول لكم كلمة بعد كل هذا السرد أن "المجتهد المطلق" من مثل الأئمة الأربعة ومن وازاهم أو داناهم يكون كل واحد منهم أولَ في كل هذه العلوم. وهذا "المجتهد المطلق" هو في الرتبة التي وصفها القرآن الكريم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

هذه الرتبة العلمية المحيطة بعلوم الإسلام هي التي تمكن صاحبها من أن يعمل كل ما في صدره من علم وما في قلبه من تقوى وخشية ، ليقول في شريعة الإسلام.

نحفظ هذا لنذهب في محطة اخرى إلى الذي يليه.

ثقافة حديثية ميسرة -3

المحدث وقطعة البزل، والمجتهد المطلق والصورة الكلية المركبة.

وأكتب بغير لغة أهل الاختصاص، لأيسر أمرا على جمهور بخطابهم باللغة التي اعتادوا..

وما زلنا في طريقنا لإقرار حقيقة "أن ما كل حديث صحيح يعمل به، ويبنى فقه الأحكام الخمسة عليه" وهي حقيقة قد تبدو مرة على بعض أصحاب الطعوم، ولذا نمضي إليها برفق ولين...

تحدثنا عن "المجتهد المطلق" وقلنا إنه العالم الفذ السابق في كل ميادين العلوم الشرعية، ولو أردت أن أعيد لكم وصفه باختصار لقلت هو: العالم المتكلم المفسر المحدث الأصولي الفقيه الفرضي النظّار . جمع من كل العلوم الشرعية مبادئها ودقائقها ومضامينها وغايتها، وجمع إليها كل ما يلزمه في طريق فهمه كل العلوم المساعدة من لغة ونحو وصرف وبيان...

ونصير الآن إلى تعريف المحدث وبيان دوره ومكانته ووجوب الاعتراف بدوره وفضله. وما أظن يبغض رواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مغشى على بصره، مطموس على قلبه. أعاذني الله وإياكم من النفاق.

والمحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنضرة الوجوه ، دعوة تذكرك بقول الله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يعي مقالته -حديثه- فيحفظه وينقله على وجه نقل العلم، وإشاعة البر.. "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، وحفظها وبلغّها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..." حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره.

وهو من أجمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الثناء على الرواة المحدثين. وبدعاء سيدنا رسول الله ندعو: اللهم نضّر يوم الفزع الأكبر وجوهوهم، ورد عنهم كيد من يكيدهم..

نذكر المحدثين عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمتلئ قلوبنا إجلالا ومهابة وإكبارا وحبا وولاء ، سمعوا فوعوا وحفظوا ثم رووا فأدوا، ثم سهرت طبقات منهم الليالي الطوال حتى غربلت ونخلت وصنفت وبوبت وقدمت للأمة خير زاد ، فجزاهم الله عنا وعن حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم خير الجزاء..

المحدثون هم أولئك الطبقة من رجال الأمة وعلمائها الذين أفنوا أعمارهم، وأذهبوا نور أبصارهم، في تتبع أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفواه الرجال، يرحلون في طلب الحديث الواحد، مئات بل آلاف الأميال، ليسمعوا رواية من صاحبها الأقرب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ليجمعوا ما رووا فيرووه، وإن كانوا من أهل التصنيف فيبوبوه ويصنفوه.

وغاية عمل المحدث رضي الله عنه أنه يجمع الحديث باذلا الجهد في التأكد من سلامة سنده ومتنه واستيفائه شروطا يقتنع المحدث بها، فيضعه في سياق يراها تليق به أو يليق بها.

ولا شك أننا مطالبون بالتبيان أن في المحدثين من اقتصر علمه على علم الحديث رواية، أو رواية ودراية، وفيهم من تجاوز ذلك إلى علوم أخرى فأتقنها وتقدم بها. وإنما حديثنا هنا على جمهرة الرواة والمحدثين.

واختلف العلماء في تعريف الراوي والمحدث، وأكثروا، ولا ضير في الاختلاف في تحديد التعريف، إذا صار أمره إلى بيان. فقد قال الأولون "لا مشاحة في الاصطلاح" وعنوا أن للإنسان أن يستخدم المصطلح العلمي فيحدد مراده منه مع البيان.

وحين نذكر في سياقنا المعرفي هذا لفظ الراوي فإنما نريد تلك الطبقة من الصحابة ومن يليهم من الرجال والنساء الذين أولوا اهتماما في رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدوا الرواية على وجهها مشافهة أو مكتوبة في مذكراتهم الشخصية حتى صارت تلك الروايات إلى المحدث. الذي جمع وبوّب وصنّف.

والمحدث في التعريف الذين نعتمد - وهذا لا يلغي ما اعتمد الآخرون- هو الرجل الذي جمع بين يديه ما تيسر له من الأحاديث فغربل ونخل - وفق منهج - ثم بوب ثم صنف وأخرج ذلك للمسلمين في كتاب محفوظ تحت عنوان "الصحيح أو السنن أو المستدركات أو المسانيد"

ونعتقد أن لقب المحدث أولى بمن جمع الأحاديث من أفواه الرواة فصنفها، وأثبتها. وأن إطلاق وصف المحدث على غير هذا من العلماء المشتغلين بالحديث يصح بمعاني كثيرة منها كثرة المحفوظ، ومنه الانغماس في الاشتغال بهذا العلم الشريف...

بقي أن أصير بكم إلى المقارنة بين دوري المحدث والمجتهد المطلق الذي سبقنا إلى الحديث عنه بين يدي السياق..

المحدث هو من يقدم القطعة الصغيرة المفردة من اللوحة الكبيرة المركبة، والمجتهد المطلق هو من يبحث عن مكان هذه القطعة في اللوحة الكبيرة حيث تحتل مكانها بانسجام تام.,

وبين هذا وذاك تعترض طريق القطعة المفردة إلى مكانها في بنيان الشريعة المرصوص عوائق وعقبات قد لا تكون منها في ذاتها، وإنما في ظروفها عندما قيلت، وفي مقترناتها من أشباه ونظائر. وكل ذلك باب من العلم فريد، يعيه المجتهد أكثر مما يعيه المحدث المستقل والفقيه المستقل. وهذا يسلمنا إلى علل وأسباب، تجعل المجتهد يتوقف في إعمال الحديث وإن صح سنده، وصح متنه على السواء..

موضوع يستحق العود إليه والعود أحمد..

ثقافة حديثية ميسرة -4

"ما كل حديث صحيح يُعمل به، حتى يكون عليه عمل خير القرون وحتى يستنبط منه الفقيه"

وابتداء نقول إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. وأن على هذه السنة تدور أحكام وشرائع من أمر هذا الدين. وأن بعض الناس يخلطون عن قصور  بين قولنا "السنة" بوصفها قسيم الفرض. بمعنى أن الفرض هو الواجب، وأن السنة هي المندوب. فسنن الصلوات من الرواتب، وسنن الفرائض تقابل الأركان. بينما المقصود من السنة حين تذكر في مصادر التشريع ذكر المصدر الثاني من التشريع، الذي تقوم وتدور عليه الأحكام الخمسة أو السبعة . والأحكام الخمسة التي تثبت بالسنة النبوية الشريفة هي " الواجب - المندوب - المباح - المكروه - الحرام" واعتمدها السادة الأحناف سبعة أحكام " الفرض - الواجب- المندوب- المباح - المكروه تنزيها - المكروه تحريما – الحرام". فاعتبروا الواجب رتبة بين الفرض، والمندوب، واعتبروا المكروه تحريما دركة بين الحرام والمكروه.

المهم أن ندرك أن السنة النبوية المطهرة بوصفها مصدرا من مصادر التشريع هي ركن أصيل في بناء شريعة الإسلام . قال تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) وقال ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) فاشتق لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة من طاعته، لا نقول مستقلة عنها، ولكنها مخصصة بمقامه، وبدوره الذي أوكل إليه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) تعلمهم كيف يصلون ويصومون ويزكون، وتفصل لهم المجمل، وتخصص لهم العام ، وتضعهم على طريق العلم و الاستباط الصحيح.

وإن الذين يرغبون عن سنة رسول الله تحت أي لافتة أو عنوان، هم أصحاب بدعة وضلالة ينهجون طريقا خفيا لهدم هذا الدين، والالتفاف على شريعة الإسلام، وأمر المسلمين.

وإننا حين نقرر "ما كل حديث صحيح يعمل به" لا نفعل ذلك رغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تهربا من استحقاقاتها، أو استصغارا لأمرها، أو تفضيلا لرأي إمام أو فقيه على حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما نفعل ذلك تمسكا بالسنة على طريقة الذين رووها وعايشوها، وكانوا أحقَّ بها، وكل أولئك من طبقتي الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين المتبوعين وغير المتبوعين . فاحفظ هذا فإنه موطن مزلة ، يشوش به بعض قصار النظر من المحدودين على المسلمين أمر دينهم وفقههم كما ورثوه عمن يورث عن مثلهم العلم.

وسأقايس لك مقايسة تقنعك وتكفيك إ-ن شاء الله تعالى- وتعينك على فهم المقصود، ورد طريقة من اعتبر النص مستقلا عن الفقه، ختما على السمع وغشاوة على البصر.

فهذه نصوص القرآن الكريم كلها "قطعية الثبوت" ولا أحد يماري في ثبوت النص القرآني، ثبوتا يورث العلم اليقيني، ومع ذلك فلا أحد يقول أن إعمال النص القرآني، يتم دون العودة إلى قواعد الاستنباط، من نظر الأصولي وفقه الفقيه. حيث يتم تمييز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة الخاص من العام، والمفصل من المجمل، ودلالة الظاهر ودلالة النص ودلالة مفهوم المخالفة، ودلالة الشرط ...

نعيد التركيز : ثبوت الحديث هو نصف الطريق إلى العلم. وكما نحتاج في فقه آيات القرآن إلى الفقيه، نحتاج إلى مثل ذلك في فقه الحديث الشريف. مع العلم أن ثبوت القرآن القطعي، يختلف عن ثبوت الحديث- غير المتواتر-

ثبوت النص مرحلة على طريق العلم، وإعمال النص والاستنباط منه، مرحلة أخرى. والمرحلة الأولى يرودها المحدث، والثانية يرودها الفقيه. والمرحلتان يرودهما المجتهد المتمكن...

هذا مدخل ثالث لهذه الحقيقة التي أشكلت على بعض الناس ومال تزال ..

وحين سندخل في التفصيل سنجد أن ثمة أحاديث رواها الأئمة المجتهدون وأحاطوا بها، وليس لم تبلغهم كما يزعم بعض الزاعمين. ولكنهم مع روايتهم لها، توقفوا عن العمل بها وكان لهم في ذلك فقه رواية وفقه دراية، وما يعقلها إلا العالِمون..

وسيكون لنا عود في الموضوع بعدُ لأهميته...

ثقافة حديثية ميسرة -5

وما زلنا في أمر إعمال الحديث الشريف، الصحيح منه بشكل خاص، ونكتب تحت عنوان: ما كل حديث صحيح كان العمل عليه. نقرر ذلك مع تمسكنا بكل كلمة أو إشارة وردت عن سيدنا رسول الله، نتلقاها بحب، ونتمسك بها بشغف..

سأحتاط بين يدي هذه المحطة ، وقلت أنني أكتب لتيسير الثقافة، على جيل من الناس، باتت القضايا الاختصاصية، تطرق عليهم أبوابهم، وتفرض نفسها عليهم، وتكون مدخلا لبعض الضالين والمضلين. وفي هذا الإطار ، ومقالاتي هذه ليست لأصحاب الاختصاص، وليست للتحقيق العلمي، وإنما لبث هواء نظيف، أو ضخ ماء طهور. أو إشهار علم صحيح؛ وبالتالي فإنني قد أستعير في هذه المقالات من أقوال أهل العلم جملا صالحة، وعندي كراس أظل أجمع من درر العلماء ما أراه مفيدا لي، فسأدرج بعض هذه الأنوار المقتبسة درج كلامي. وربما صرت إلى تخصيصها بالوضع بين قوسين. غير مفتئت على أصحابها، ومن غير عزو إليهم، وليس على سبيل غمطهم، وتجاوزهم، سائلا المولى أن يثيب صاحب كل جهد على جهده. وأرجو أن يُعلم هذا، فنقلي من غير عزو ليس ادعاء مني، ولا هو غمط لصاحب الحق فيما سبق إلى تقريره، فطبيعة التيسير، بحيث يمر الأمر سهلا ويسيرا على المستفيدين..وأسأل الله العصمة من زلل..

ونعود لنقرر أن الصحة وحدها ليست العمدة في إعمال الحديث الشريف. بل هناك مقترنات أخرى مقررة في كتب أهل العلم ولاسيما من القرون الأولى من أهل الخيرية..

وكان مما علقت من كتب أهل العلم

"ولا يُقبل الحديث - الحديث الصحيح الفرد- إذا خالف السنة المعروفة متواترة كانت أو مشهورة."

"ولا يقبل الحديث - ولو صحيحا- إذا ورد في حادثة مشهورة خلاف ما رواه الجماعة"

"ولا يُقبل الحديث إذا أعرض عنه الأئمة من الصدر الأول - الصحابة والتابعين- فإنهم إذا تكلموا بينهم بالرأي ولم يلتفتوا إلى الحديث، كان ذلك دليل انقطاعه عندهم وإعراض الصحابة رضي الله عنهم عن الحديث مع توفره، يحمله على أنه منسوخ أو سهو من راويه"

ويتحصل من ذلك أنه يشترط لإعمال الحديث مع صحته وعدالة راويه وضبطه:

1_ كون الحديث لا يخالف قطعي الكتاب ولا السنة المشهورة.

2- وأن لا يكون معرَضا عنه، ومتروكَ العمل به، في الصدر الأول - جيل الصحابة رضي الله عنهم.

3- وأن لايكون شاذا في عموم البلوى، الأمر الظاهر المنتشر، فحين يكون الأمر ظاهرا مشتهرا يجب أن يكون الحديث عنه كذلك..

"فاحفظ هذا فإنه نفيس جدا" هكذا وجدته في مذكراتي.

وأكثر ما يراوغ عليه المراوغون في فرض العمل بالحديث المتروك، قولهم عن الحديث: لم يبلغهم !!

وأي حديث لا يعرفه جيل الصحابة، والتابعين والأئمة المتبوعين...؟؟!!!!

وتذكّر فيما يجب أن تتذكر أن جيل الأئمة المتبوعين "أبو حنيفة ومالكا والشافعي.."، متقدم زمنيا على جيل المحدثين..

وهذا جواب لطيف من ابن الماجشون رحمه الله تعالى، يصادر أقوال مدعي أن الحديث لم يبلغ الأئمة المجتهدين!! قيل لابن الماجشون: لم رويتم الحديث ثم تركتم العمل به؟؟!! أجاب ليُعلم أنا على علم تركناه!! تأمله فهو : جواب لذيذ.

وألذ منه جواب إمام المنصفين الإمام الذهبي، وقد سئل: هل يُردُّ على الإمامين أبي حنيفة والشافعي، كليهما، أو أحدهما بالحديث الشريف؟؟

فقال هذا جيد بشروط...

يقول زهير واجعل شروطه كقطعة الحلوى تستبقي لذاذتها في فيك حتى لا تنقطع عنه أبدا..

فقال هذا جيد بشروط، أي أن الرد على أبي حنيفة وعلى محمد بن إدريس رحمهما الله تعالى جيد وممكن بشروط: ثم عدد

الشرط الأول وتأمل وتفهم وتمسك، أن يكون قد قال بالعمل بذلك الحديث- الحديث المردود به - إمام من نظراء الإمامين، مثل مالك وسفيان - أحد السفيانين- أو الأوزاعي، وليس من قوبة "هم رجال ونحن رجال" المستجدين...

ثانيا- بأن يكون الحديث ثابتا سالما من علة.

ثالثا - وثالثا هذه مهمة: أن لا تكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثا صحيحا معارضا...

بمعنى لا يرد على الحديث بالحديث. وقد علمنا ان تصحيح الأحاديث في النهاية أمر اجتهادي. يكون لكل إمام اجتهاد فيه. وهذه تحتاج إلى وقفة خاصة.

عود إلى ما قال الإمام الذهبي: أما الإنكار على أئمة الاجتهاد بحديث صحيح، تنكر العمل به سائر أئمة الاجتهاد...فلا ... فلا يعني أن مثل هذا لا يجوز ولا يكون فإن كان فهو مجرد شغب من مشاغبين...وما أكثر المشاغبين في كل عصر ومصر..!!

وسنختم هذه القضية بضرب بعض الأمثال للحديث الصحيح المتروك العمل به، أي الذي ترك العملَ به جيل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين متبوعين وغير متبوعين...

ثقافة حديثية ميسرة -6

"ما كل حديث صح سنده ومتنه عمل به"، أمثلة مختارة..

وخلُصنا إلى أن عمل السلف الصالح من القرون الأولى بالحديث الشريف هو المرجع الأول في إعماله أو تركه. وإن صح سنده ومتنه. فاعتماد عمل السلف " إعمالا وتركا " هو الأولى بالاعتبار. فاحفظ هذا وهو الخلاصة، إن لم تكن تبحث عن تفصيل.

وقالوا في تعليل ذلك: إنه لا بد لمن يريد أن يستنبط من النصوص، أن يحيط بجميع النصوص الموازية، ولا ينتبز العلم انتبازا ولا ينتبذه انتباذا، ولا يتعلق بنص وينسى سواه. فالنص الشرعي جزء من منظومة يجب أن تظل منسجمة متلاحمة لا نشوز فيها ولا شذوذ.

ويجب لمن يريد أن يستنبط من النص أن يحيط بتاريخ النص، وأوله الظرف أو السياق الذي قيل فيه النص.

ويجب أن يحيط ثالثا – وهذا هو الأهم فيما نحن فيه - بطريقة تعامل الصحابة الكرام، والتابعين، والأئمة المجتهدين مع النص. والقفز فوق أقوال هؤلاء ليس من الدين، ولا من السنة، بل من الرغبة في التشويش على الناس.

والحديث الشريف، حديث الآحاد الصحيح، وإن سلمت الأمة بصحته، صحته اعتبارية، وليست في حقيقة الأمر. وهذا ما يميز حديث الآحاد عن الحديث المتواتر. فالحديث المتواتر، يورث العلم اليقيني القطعي الذي لا يتطرق إليه الشك. وحديث الآحاد يورث العلم الظني، أي غالب الظن من الصحة الاعتبارية، وهو قدر من اليقين يتيح أن تؤسس عليه الأحكام الفقهية التفصيلية، وتترك مساحة لاحتمال أن يكون الراوي قد وهم أو سها أو غفل. وهذه حقيقة يورث العلم اليقيني، ويورث العلم الظني. وهذا أساس في نظرية المعرفة الشرعية الإسلامية نباهي به المناهج المعرفية في العالم كله.

وغير السهو وهو أقل ما يحمل عليه الحديث الشريف، هناك النسخ، فقد يرد في سياق السنن نهي ثم إباحة مثل : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" ومثل الإذن الظرفي بمتعة البضع، وقد تكرر بعدُ النهي عنها. وما زال قوم مع الأسف يتعلقون بها. وقلت متعة البضع لأميز بين متعة الحج، ومتعة المطلقة.

وفي الحديث الشريف ما خرج مخرج الزجر والتحذير والتربية النبوية المنهجية مثل حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده"

فإنه لم يقل أحد من الصحابة والأئمة المعتمدين، بقطع يد السارق من أجل بيضة، بل لا يقطع من سرق ما دون نصاب وهو ربع دينار، ومن حرز أيضا. فلقطع السارق شروط، وتدرأ الحدود بالشبهات.

بل وأشكل على بعضهم اللعن في مقدمة الحديث، وقال كيف؟؟!! وقد ثبت النهي عن لعن أصحاب المعاصي. وخرّج بعضهم الحديث فقال: واللعن لعن زجر وتأنيب، وليس لعن طرد من رحمة الله. ثم قالوا ومدخل الحديث أن السارق يسرق البيضة، ثم يسرق الحبل ..ثم يتمادى به الأمر ويعتاد السرقة فيسرق الجمل فتقطع يده. المهم أنه لم يقل بقطع يد سارق البيضة ونحوها أحد لا من الخلفاء الراشدين، ولا من الأئمة المعتبرين. وليسامحني أهل الظاهر.

وكذا ترك الصحابة رضوان الله عليهم العمل بحديث "فإن شرب الرابعة فاقتلوه" عن شارب الخمر يحد ثلاث مرات، ثم حسب الرواية يقتل في الرابعة، فإن الرواية وإن صحت، فإنه لم يعمل بها أحد، لا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عنه خلافها عمليا، وجاؤوه بمن شرب مرة بعد مرة حتى الرابعة ولم يقتله. ولم يعمل به أحد من الخلفاء الأربعة، ولم يقل بالعمل به أحد من الأئمة المعتمدين..فتأمل

ومن ذلك الحديث المروي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها تولت عقد نكاح ابنة أخيها عبد الرحمن على ابن اختها. والسنة الماضية أن أمر النكاح مخصوص بالأولياء من الرجال. وكل المحدثين يروون الحديث ولكن لم يعمل به من السلف الصالح أحد. ولعل هذا الحديث يعجب دعاة النسوية اليوم أن تباشر المرأة عقد نكاحها بنفسها!!

ومن تلك الأحاديث التي صحت روايتها وتُرك العمل بها، حديث سيدنا ابن عباس أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: جمع في المدينة -يعني في غير سفر- بين الصلاتين من غير خوف ولا مطر. وكم يعجب هذا الحديث متتبعي الرخص. ولم يعمل به من السلف الصالح أحد..

وإنما أردت أن أسوق أمثلة دالة معبرة، لتعلم أن عمل السلف الصالح وخيرته في القرون الثلاثة الأولى، الصحابة والتابعين وتابعيهم مرجع ومرشد في التعامل مع حديث الآحاد، نعمل ما أعملوه، ونترك ما تركوه، وهم لا يكون لهم أن يرغبوا عن حديث سيدنا وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلم علموه، أو فقه فقهوه.. حضروا رضي الله عنهم وغبنا، علموا وجهلنا، فقهوا وغاب عنا!! ولا يحاددهم في فقههم إلا محدود!!

وأضرب لك مثلا من عمل الصحابة الذي شاع وذاع ومضت عليه السنة، من صلاة التراويح، وهي صورة من صور قيام رمضان، جمع سيدنا عمر المسلمين عليها، عشرين ركعة تصلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تزال تصلى في مسجد رسول الله حتى اليوم كذلك، صليت منذ عهد عمر والصحابة رضوان الله عليهم متوافرون يرون ويسمعون ،ثم يخرج على الناس من يشغب عليهم بحديث عائشة، عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الذي نسمع ونرى!!

وأختم هذا الموضوع بالتأكيد على ما يلي:

 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع في الأمر كله لا يرغب عنه مسلم.

الصحة الحديثية ليست كافية وحدها لإيجاب العمل بالحديث، بل يجب أن تقترن بتلقي الحديث بالقبول من جيل الصحابة والتابعين. نعمل ما أعملوا، ونترك ما تركوا، ولا ندعي عليهم الجهل بالحديث، فلا يدعي الجهل على أصحاب رسول الله إلا جاهل.

قال أهل العلم: يُترك الحديث الذي تُرك العملُ به. ولا يُكذب به. ولا يُعمل به. ويُعمل بما عُمل به. نحترم النص ونوقره، ثم نعمل بما عمل عليه أهل الفقه من الصدر الأول.

والذي أردنا التنبيه عليه: هو هذا الخطأ الشائع عند بعض الأدعياء الذين يهجمون على العلم، ويحبون الإغراب على الناس بدعوى أنهم يكتشفون الدين الجديد. من فقه سنة ومن صلاة النبي ومن حجه ومن صيامه!!! وما أجمل ما قال البوصيري:

وكلهم من رسول الله ملتمس.. غرفا من البحر أو رشفا من الديم

لطيفة أحب أن أختتم بها ..

وكان أبو العلاء المعري رحمه الله تعالى يحب الشَّغْب على من حوله، فقال وهو في محبسيه، عماه وبيته، يقلب الفكر في النصاب الذي تقطع به يد السارق، ثم في الإرش الذي يدفعه من يقطع يد إنسان في خصومة أو نزاع، فأورد هذا البيت مستشكلا:

يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت .. ما بالها قُطعت في ربع دينار؟؟

ورد عليه نبيه من نبهاء أهل العلم :

عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها.. ذلُّ الخيانة، فافهم حكمة الباري.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 975