جميلة من فلسطين اسمها شيرين أبوعاقلة
شيرين، الصحافية الشجاعة والنبيلة، التي تبعناها إلى الشيخ جراح وباب العامود وجنين والقدس العتيقة وميعار، كي نقرأ في صوتها وكلماتها أبجدية الحب والتحدي.
شيرين الفتاة المقدسية التي يرتسم حياء التواضع على وجهها، جعلت من البحث عن الحقيقة مهنتها وشغفها، وتحولت إلى نجمة تضيء ليلنا العربي الطويل.
ابنة القدس ونجمتها، سقطت شاهدة وشهيدة على تراب مخيم جنين، فحولت الأرض سماء جديدة.
اسمها شيرين، وشيرين كلمة فارسية تعني الجميلة والعذبة.
جميلة فلسطين تابعت في شهادتها واستشهادها حكاية جميلات الجزائر: جميلة بوحيرد وجميلة بو عزة وجميلة بوباشا، اللواتي حولن الجزائر إلى قصائد وأغنيات احتلت الذاكرة.
شيرين أبو عاقلة هي جميلتنا ونجمتنا، تكلمت وشهدت وصمدت، لكن موتها التراجيدي برصاص قناص إسرائيلي احترف القتل، كان التعبير الأكثر بلاغة عن معنى الحياة.
لا يحق لأحد أن يرثي جميلتنا، فالرثاء لا يليق بالنبض الذي تفجر في شرايين الأرض، محولاً نعش الشهيدة إلى عرش للحياة.
ومثلما حرر القائد فيصل الحسيني القدس في مأتمه الكبير، قامت جميلة القدس ونجمتها بتحرير المدينة، فتحول نعشها إلى سفينة عبور إلى الحرية، وصار صمتها كلمات لا تتسع لها اللغة.
لا يستطيع الصحافي في فلسطين المهددة بالمحو والإبادة إلا أن يكون مقاوماً. شيرين قاومت بمهنتها ومهنيتها وصدقيتها، فحين تشهد للحقيقة في فلسطين فإنك تشهد للحق.
هذا هو الفرق الذي وضع دولة الاحتلال والتمييز العنصري في المأزق.
اعتقد القاتل أنه إذا قتل الشاهد فإنه سيطوي الصفحة، لكنه لم يتوقع ردة فعل الشهيد. شيرين في النعش صارت أقوى من شيرين التي تقف خلف الكاميرا. فلجأ السفاح إلى محاصرة النعش وقمع المشيعين وتمزيق الأعلام، لكنه لم يفهم أن الشهيد صار هو العلم، وأن القدس لن تستسلم، لأن المقدسيات والمقدسيين تحولوا إلى بحر من الغضب.
الكاتب المقدسي ادوارد سعيد كان يقول إنه يكتب بالغضب، فالغضب من القهر والظلم هو أحد علامات الحياة. وجاءت شيرين لتضيف إلى الغضب نكهة الحب. ففلسطين لا تَكتب وتُكتب إلا بالحب.
مزجت جميلة القدس الغضب بالحب، فجعلت من رسائلها، على قناة الجزيرة، عنواناً لغضب صاحب الحق الذي امتزج بحنان ابنة الأرض وحبها للناس. وقدمت صورة عن حقيقة الألم في بلاد يحتلها الوحش الصهيوني.
لذلك قتلوها.
لا أستطيع أن أنسى حين وقف الكاهن في كنيسة الروم الكاثوليك في شارع الحمرا في بيروت سنة 1986، أمام نعش نبيلة سلباق برير، التي قتلت اغتيالاً وغدراً، وقال عبارة واحدة: «قتلوكِ لأنك فلسطينية».
وحين دخل نعش شيرين إلى الكنيسة في القدس، محاطاً بالزغاريد والتصفيق ومجللاً بالعلم الفلسطيني، عادت تلك العبارة التي سمعتها منذ ستة وثلاثين عاماً في بيروت تطن في وعيي: «قتلوكِ لأنك فلسطينية».
فأن تكون فلسطينياً يعني شيئاً واحداً في عرف العنصريين الإسرائيليين، هو أنك صالح للقتل.
فكيف إذا كنت فلسطينياً وصحافياً تشهد للحق؟
شيرين ليست الشهيدة الأولى ولن تكون الأخيرة، إنها جزء من مسار موت يصنع الحياة. فكي تعيش عليك أن تواجه الموت، هذا هو الخيار الفلسطيني الوحيد.
رائف زريق في كلمة قصيرة على جداره في «الفايسبوك» مزج الغضب والحب والحزن، بوصفها ثلاث علامات للحياة.
نعم يا جميلتنا، فإن العيون التي احتلتها صورتك فاض فيها الحزن، لكنه حزن ليس كالحزن، لأننا نحزن على رجاء الحياة التي نصنعها بأيدينا.
أمام نعشك ارتسمت قصيدة السياب عن جميلة الجزائر، ورأيتُ كيف وصف نزار قباني عينيك كقنديلي معبد. وكانت الكلمات تحتضنك وتعلو بك:
« يا أختي القتيلة/ تعلو بكِ الآلام فوق الترابْ/ فوق الذرى فوق انعقادِ السحابْ/ تعلين حتى محفل الآلهةْ/ كالربةِ الوالهةْ/ كالنسمةِ التائهةْ». كما كتب بدر شاكر السياب.
ورأيتك كيف تنتصرين على الجلاد:
«تاريخ امرأة من وطني/ جلدتْ مقصلةَ الجلادِ/ امرأة دوّختِ الشمسَ/ جرحتْ أبعادَ الأبعادِ»، كما كتب نزار قباني.
هذه الصفحة المضيئة لن يطويها النسيان، فالقاتل لا يسمح للقتيل بأن ينسى، لأنه منذ سبعة عقود يراكم الموت فوق الموت، ويحول الذاكرة إلى جزء من الحاضر.
كم تمنيت أن يقرأوا على نعشك في مقبرة جبل صهيون وصف الإنجيلي مرقص ليسوع الناصريّ أمام الصبية الميتة.
أرى الناصري يمشي بين ضريحَيْ جورج انطونيوس وكمال بلّاطة، ويصل إلى المدفن الذي أُعدّ لك إلى جانب أمك وأبيك. يقف أمام النعش ويقول: «لماذا تبكون؟ لم تمت الصبيةُ لكنها نائمة».
الكلمات التي قيلت ولم تُقلْ، حملت النعش في شوارع القدس لتجعل من جميلة القدس شاهدة وشهيدة على انتفاضة الحياة التي حولت المدينة إلى بركان غضب وحـــب.
وسوم: العدد 981