من وحي حياة مالكوم إكس…علاقة الاستبداد بالتطرف

“لنكن واقعيين يا مالكوم، فإنه من المستحيل أن تكون محاميا”، عبارة صادمة تطفح بالعنصرية من معلم اللغة الإنكليزية، داهم بها كيان الطفل مالكوم إكس، الذي أعرب عن حلم المستقبل، كان أحد المواقف الصعبة التي تعرض لها منذ نعومة أظفاره في مجتمع لا يعترف للبشرة السوداء بحق الحياة.

مالكوم إكس، أو الحاج مالك الشباز، داعية أمريكي مسلم من أصل افريقي، من نسل أولئك الملايين الذين تم اقتيادهم إلى أمريكا كطقعان الأغنام، تخلى عن حلمه في أن يكون محاميا تحت وطأة الشعور بالاضطهاد، فمثله لا يعمل إلا نجارا أو إسكافيا، أما الوظائف والأعمال المرموقة فقاصرة على البيض.

قُتل أبوه وستة من أعمامه لأنهم من السود، حُرق بيتهم بسبب لون سكانه، طردت أمه من العمل كخادمة لبشرتها السوداء، وآل بها الاضطهاد إلى دخول مصحة نفسية بعد أن رفضت الهيئات الاجتماعية تقديم يد العون لها، ولك أن تتخيل أن ثمانية أبناء منهم مالكوم إكس عاشوا من دون أم أو أب في مجتمع لا يرحم أصحاب تلك البشرة، فمن ثم مضى الشاب في طريق الإجرام حتى سُجن. وفي السجن اهتدى إلى الإسلام، وصار من أهم رموز مناهضة العنصرية، وكافح من أجل نيل السود الحرية من هيمنة الرجل الأبيض، وصار أبرز أعلام الدعوة الإسلامية في أمريكا.

لست هنا بصدد سرد تفاصيل حياة مالكوم إكس، أو الحاج مالك الشباز كما هو اسمه بعد دخوله الإسلام، وإنما أتوقف عند محطة في غاية الأهمية من محطات حياته، وهي مرحلة التطرف الفكري الذي صاحب دخوله الإسلام.

نعم عنيت ما أقول وطالعته عيون القراء، مالكوم إكس نعم قد أسلم، لكنه قد تلبس فكره بمفاهيم مغلوطة عن الإسلام في البداية، كانت تطرفا مضادا للتطرف العنصري، ذلك أنه خلال فترة سجنه دخل في الإسلام عن طريق منظمة تتبنى مفاهيم مشوهة عن الإسلام ومعاداة البيض، فالإسلام لدى هذه المنظمة هو دين للسود فقط، وأن الله رب لهم دون سواهم، ويعتبر أن البيض شياطين. تلاقت هذه الأفكار مع تطلعات مالكوم إكس في الخلاص من هذه العنصرية الضاغطة التي رزخ طويلا تحت نيرانها في مجتمعه، وتمحور الرجل حول قضية اللون، من دون أن يلج في رحابة الإسلام ومفاهيمه الكاملة في النظرة إلى البشر. ما أريد قوله، إن كثيرا من حالات الجنوح والتطرف الفكري نابعة من ممارسة الاستبداد، سواء كان من المجتمع أو السلطة أو الاثنين معا، ولم تنشأ معظم مظاهر الغلو في التكفير والاستهانة بالدماء إلا من خلال هذا الاستبداد، فالنفس البشرية عندما تتعرض للضغط المستمر، تنشأ فيها رغبة الانتقام، وتسيطر على نظرتها وتقييمها للأمور. هذا تحديدا ما حدث مع نشأة الفكر التكفيري في مصر في الحقبة الناصرية، عندما كان زبانية التعذيب يمارسون أبشع أنواعه ضد سجناء الفكر والرأي، ومن فرط التعذيب الذي تعرض له الإسلاميون في السجون ظهر من يقول منهم إن من يفعل ذلك لا يمكن أن يكون في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فتكوّن فكر جماعة التكفير والهجرة، التي كفرت الحاكم وأتباعه والجنود إلى أن وصل التكفير إلى المجتمع، وصاغت هذه الجماعة منهجا لها لا حاجة لنا في هذا المقام إلى الخوض فيه.

سيطرت الحساسية المفرطة لمالكوم إكس تجاه اللون على أفكاره بشكل قوي، فكان يرى أن السواد هو وصف البيض لكل ما هو سيئ وبشع، وقد أشكل إليه فهم الآية الكريمة (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا)، وانتابته المخاوف من أن يكون معناها أصحاب الوجوه السوداء، فأرسل إلى أحد أصدقائه من المسلمين فنفى له ذلك وعلمه المعنى الصحيح لها، فانظر كيف كان يدخل إلى النصوص بخلفية اللون ويضيق مفاهيم النص الإسلامي!

هذا تحديدا ما يحدث مع أهل الغلو والتطرف الفكري، يتعاملون مع النصوص على خلفية نظرتهم القاتمة للمجتمع، يسيطر عليهم الاهتمام بقضايا الإيمان والكفر بشكل مبالغ فيه، وتأسرهم الرغبة في التصنيف والحكم على الناس، وتكون هي أكثر ما يشغلهم وليس مهمة الإصلاح، ذلك لأنهم يحملون نظرة قاتمة للمجتمع، المسؤول عنها في كثير من الأحيان هي الممارسات الاستبدادية القمعية التي يتعرضون لها.

وإننا ها هنا نشير إلى أن مالكوم إكس لم يستقم فكره ومنهجه إلا بعد رحلة الحج، التي اختلط فيها بأهل العلم، وتعرف على منهج الإسلام في التعامل مع البشر والنظرة إليهم، فلا فرق لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، وهو المنهج الذي صبغ مسيرته إلى أن لقي ربه. وهكذا الفكر، لا يواجه إلا بالفكر، حينها يكون التغيير ذاتيا مع تغير القناعات، فمواجهة التطرف الفكري بالقمع والتسفيه والتجهيل وفرض العزلة، في الغالب يزيد المتطرف فكريا تمسكا بما هو عليه، ويستحضر حينها كل النصوص المتعلقة بغربة الإسلام والقبض على الجمر والثبات على الحق، وينزلها على واقعه فيزداد رسوخا في قناعاته. وقد يقع بفعل الاستبداد في تطرف من شكل آخر، وهو شرعنة هذا الاستبداد تحت مظلة طاعة ولي الأمر، أو إسقاط شمولية الإسلام كأن يقول إن السياسة لا شأن لها بالدين، وإن مكان الدين في القلوب والمحاريب فحسب، كل ذلك بفعل الاستبداد والقهر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 982