مصر تملك مقومات الغنى والقوة .. البلاء في إدارة شئونها
يحتدم الجدل الإعلامي بين القاهرة والرياض بعد مطالبة الإعلامي عماد الدين أديب الدول الخليجية بمنح مصر 25 مليار دولار للتغلب على أزماتها الاقتصادية والمعيشية ، وساند مطالبته بتحذير لهذه الدول وإسرائيل وليبيا من اندفاع فيضان من المصريين نحوها بحثا عن الطعام ! ورأى إعلاميون في بلاد الحرمين في هذه المطالبة والتحذير ابتزازا ، وحثوا على عدم الاستجابة لهما . وفي تناقض مع هذا الحث ، وقعت القاهرة والرياض خلال زيارة ابن سلمان الأخيرة اتفاقيات استثمار بحوالي 8 مليارات دولار تمولها الرياض ، والمنتظر أن توقع اتفاقيات مماثلة بين القاهرة والدوحة خلال زيارة أمير قطر تميم بن حمد ، وربما تكون أكبر وأسخى في شروطها بحافز المنافسة بين الدوحة والرياض ، وربما تقدم الدوحة منحا مالية لمصر . كل دول العالم ،غنيها وفقيرها ، تجتهد لجلب الاستثمارات الخارجية لما فيها من إثراء لاقتصادها وكسب رزق لمواطنيها ، والدول الجيدة الإدارة لشئونها تسن قوانين تسهل جلب تلك الاستثمارات ، وتوفر الأمان الذي يطمئن المستثمرين على أموالهم . والدول الفقيرة التي تقل مجالات الاستثمار المربح فيها تطلب منحا مجانية ، فتحصل على القليل على حساب كرامتها الوطنية وحرية مواقفها السياسية . ومصر تملك مقومات الغنى والقوة أكثر مما تملكها كل الدول الخليجية التي يعتمد 90 % من اقتصادها على عائدات النفط والغاز . مصر لديها ثروة بشرية من 110 ملايين إنسان مهيأة لتكون قوة إنتاج فعالة بما لها من خبرات ومهارات في كل مجالات النشاط الاقتصادي إلا أنها ، مصر ، لم تحسن ، حتى لا نقول " أساءت " استثمار هذه الثروة ، وقلبتها من مصادر غنى وقوة إلى مصادر مشكلات اقتصادية وفقر وضعف وحاجة إلى الدول الأخرى ، وانحدر مستوى معيشة أكثرية المواطنين إلى ما تحت خط الفقر ، وملايين منهم بلا بيوت ، وملايين بلا عمل . الثروة البشرية تجلب الثروة المادية ولا تقللها أو تُنْضِبها ، وقدمت الصين أقوى البراهين على هذه الحقيقة ، فأدخلت كل مواطنيها في عجلة الإنتاج ، وصيرت كل أسرة مصنعا صغيرا ينتج جزئيات إنتاجية ، يتم تجميعها في مصانع تتولى صنع منتج نهائي يُصدَر إلى كل العالم ، فقضت على البطالة التي تفجر المشكلات الاجتماعية والنفسية والسياسية ، وترفع منسوب الجرائم في المجتمع . وبتدوير المنتجات المستعملة المحلية والمجلوبة من أنحاء العالم ؛ تغلبت الصين على نقص المواد الأولية ، وجنبت نفسها تكلفة شرائها العالية . وموارد مصر الطبيعية كثيرة متنوعة بحكم مساحتها التي تقارب مليون كم مربعة ، ولديها بحران فيهما ثروة سمكية ومعدنية ونفطية كبيرة ، ومجالات سياحية من جنوبها إلى شمالها ، ومن شرقها إلى غربها . والواقع الغريب أن القوة البشرية المصرية لا تسكن إلا حوالي 6% من المساحة الكلية للبلاد ، والبقية خلاء مهمل ، وتكثيف القوة البشرية في هذه المساحة الصغيرة يضعف الخدمات المقدمة لها ويعجزها ، ويفجر مشكلات اجتماعية ومعيشية من كل صنف ، ودائما إذا كثر الناس في مكان كثرت مشكلاتهم وساء مستوى معيشتهم ، وضاق خلقهم وساءت أخلاقهم . صدر الانسان يتسع وينشرح باتساع المكان وانشراحه . المصريون ، أهلنا وأحباؤنا ، ليسوا في حاجة للفيضان على محيطهم العربي ، والحل لمشكلاتهم بالفيضان على جغرافيتهم الوطنية . كل حلول مشكلاتهم في بلادهم .
والوثبات الواسعة في زراعة الصحارى حولتها إلى مزارع غلال وخضراوات وبساتين فاكهة ومساكن عصرية . ما من صحراء تأبى أن تخضر إن وجدت من يوفر لها الماء و النبات . " نفوت على الصحرا تخضر . " هكذا غنى عبد الحليم حافظ يوما ، وليت مصر تحول الاعتزاز والثقة والحلم في أغنيته إلى حقيقة ، وأعظم الإنجازات تبدأ بحلم فردي أو جماعي . وبلاء مصر في سوء إدارة كل شئونها ، ومنبع هذا البلاء نظامها العسكري الذي قَبَر كل قواها في يده ، وقضى على قوى المجتمع المدني وحيويته ، ويسيطر الآن على أكثر من 50 % من اقتصاد البلاد ، ويدير جنوده وضباطه آلاف المحلات التجارية ، ومع ما في كل هذا الدور من مساوئ اقتصادية ، ففيه إبعاد لهم عن مهمتهم الأولى التي هي حماية البلاد من الأخطار الخارجية . وهذا تنفيذ لمخطط أميركي وإسرائيلي لإضعاف مصر مجتمعا ودولة وصرف جيشها عن تجسيد أي خطر على إسرائيل التي تؤمن كامل الإيمان أن مصر الشعبية ، مصر الوطنية ، لا ترى فيها ، في إسرائيل ، إلا عدوا ، وهذه هي حقيقة إسرائيل . ومن شواهد هذه الحقيقة أنها تقلق من أي زيادة في أسلحة الجيش المصري عددا ونوعية . واجتهدت منذ اختلاقها في الوطن الفلسطيني لإضعاف مصر ، وإخراجها من دائرة الصراع معها ، فهاجمتها مع بريطانيا وفرنسا في 1956 ، وفي يونيو 1967 ، وفي النهاية أخرجتها بمساندة كاملة من أميركا ، وترى الآن فيها حليفا استراتيجيا لصالحها هي لا لصالح مصر ، وهذا قضى على دور مصر المحوري في المنطقة بصفتها دولة عربية كبيرة يأتلف معها العالم العربي في جبهة واحدة ولو بوجود بعض الدول العربية النافرة من هذا الائتلاف . ينقل الراحل هيكل عن السياسي الفرنسي كوف دي مورفيل أن إلحاح إسرائيل الطويل على إخراج مصر من محوريتها في المنطقة وراءه اقتناع إسرائيل أنها لا دخول لها فيها ، في المنطقة ، إلا بخروج مصر من تلك المحورية ، وفي هذا السياق ينساب قول شمعون بيريز إن مصر قادت المنطقة 40 عاما دون نتيجة جيدة ، وأن إسرائيل ستفعل العجائب من المنجزات لو قادتها عشر سنوات ، وهذا ما تشعر الآن بأنها تقترب منه بدفع أميركي تستجيب له الأنظمة العربية الخاضعة لأميركا ، ولن يوقف هذا الاقتراب إلا عواصف شعبية عربية تنقذ الأمة من هول هيمنة إسرائيل عليها بعد إقصاء أكبر قوة عربية كانت تصد تلك الهيمنة ، وتشجع دولا عربية أخرى على صدها . وفي مقدور مصر بقيادة سياسية وطنية أن تسترجع دورها المحوري النافع لها أولا ولأمتها ثانيا إن هي أحسنت استثمار مواردها الطبيعية المتنوعة ، وثروتها البشرية المشهود لها بالنشاط والحيوية والخبرة ، ولن تضطر هذه الثروة عندئذ للفيضان على الدول المجاورة إن لم تسعفها الدول الخليجية بمليارات الدولارات . الله _ جلت حكمته ورحمته _ لم يجعل رزق أحد على أحد . والإنسان فردا أو مجتمعا حيث يضع نفسه في منزلة عالية أو منزلة منخفضة ، ونوَع الله مصادر رزق الأفراد والشعوب ليتحقق التكامل بين البشر ، والفارق بين فرد وآخر ، وشعب وآخر في استثمار هذه المصادر استثمارا منتجا مغنيا عن الآخرين .
وسوم: العدد 986