بطانة الحاكم بين الصلاح والفساد
رأى الزاهد مالك بن دينار يوماً غراباً مع حمامة، فعجب من ذلك، وقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان، فقال: من ها هنا اتفقا. فلا يتفق اثنان إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، وإلا كانت بينهما مناسبة، ولذا يختار كل واحد من يصاحبه، وكل زوج من يناسبه، بل كل حاكم من يناسبه من البطانة.
البطانة هم الخواص المقربون الذين يستشيرهم، وشبهت ببطانة الثوب لقربها من الجسد ولأنها مما يليه، ولها نصيب كبير من عناية كتب فقه السياسة الشرعية، نظراً لما تمثله من تأثير قوي على سياسات وقرارات الحاكم، وهي تمثل في تركيب الدولة المعاصرة، السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمثل البطانة فئة خاصة من المحكومين، تنوب عن الحاكم وتشاركه في تصريف أمور الدولة، وفق صلاحيات ممنوحة لهم.
من المعلوم أن مهام الحكم أثقل من الجبال، وأي حاكم مهما بلغت قدراته الإدارية، لن يستطيع القيام بها وحده، لذلك يحتاج إلى من يؤازره ويعينه، وقد طلب نبي الله موسى من الله سبحانه وتعالى، أن يشاركه أخوه هارون في أمر القيام بأعباء الرسالة (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري).
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بيّن خطورة البطانة في الحديث الشريف عندما قال: (مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْه،ِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ)، ويعد من دلائل عبقرية أمير المؤمنين عمر، أنه كان يحرص على بقاء كبار الصحابة حوله، ومنعهم من السياحة في البلاد، أو الاستقرار بعيدا عن مركز الدولة في المدينة، حتى تكون حوله بطانة صالحة يستشيرها وتسانده. البطانة إما أن تكون همزة الوصل أو همزة القطع بين الراعي والرعية، إما أن تكون جسرا للتواصل بينهما، أو تكون حجابا من الأسوار بينهما. ويرى ابن الأزرق في كتاب “بدائع السلك في طبائع الملك”، أن السلطان كالطبيب، والرعية كالمرضى، والوزير كالسفير بين المرضى والأطباء، فإن كذب السفير فقد بطل التدبير، وكما أن السفير إذا أراد أن يقتل أحدا من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه، فإذا سقاه الطبيب على صفة السفير هلك العليل، كذلك الوزير ينقل للملك ما ليس في الرجل فيقتله، وكم من حاكم أحاط نفسه ببطانة سوء، عزلته عن الرعية، إذ تُرفع إليه التقارير اليومية التي تنبئ بأن كل شيء على ما يرام، وأن الجماهير الغفيرة تدعو له بالبركة وطول العمر، ويدلسون عليه في رضا الشعب عن سياساته، لكنه قطعا لا يُعفى من المسؤولية، وقد وسّد الأمور إلى غير أهلها، وترك الكفاءات وقرّب الفسدة، هذا إن أحسنّا به الظن، وقلنا إنه يجهل، لكن في الأعم الأغلب يكون متواطئا معهم، ويمضي رفقتهم في تغفيل وتجهيل الشعب والاستخفاف به. وإذا كان الدخان يدل على النار، والأثر يدل على المسير، فإنه ليس أدل على صلاح أو فساد الحاكم من اختياره للبطانة. وتعد البطانة التي سبق وأن قلنا إنها تمثل عناصر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، هي خط التماس مع الجماهير، وليس الحاكم، ولذلك تأخذ هذه الجماهير السمات ذاتها التي تكون عليها البطانة، فلكل بطانة، بطانة أدنى منها، فيحصل الاقتداء بكل بطانة من التي هي أدنى منها، حتى تصل إلى الفرد بالرعية، ومتى رأى المواطن أن هذه المؤسسات وعناصرها ظاهرة الفساد، غارقة في الرشوة والمحسوبيات وإهمال شؤون الناس، تعامل على هذا المبدأ في سائر حياته، وبرر لنفسه التعاطي مع الفساد والإفساد، أما إذا كانت على مستوى القدوة، فإنه يأخذ سمتها من الصلاح والإصلاح.
البطانة إن كانت صالحة، واجهت الحاكم بمثالبه، وبذلت له النصيحة وقوّمت اعوجاجه، وبصّرته بما خفي عنه من أمور الشعب وأزماته، ولم تتدنس بالتطبيل والتصفيق والنفاق لظلمه. إن كثيرا من الحكام المصابين بجنون العظمة، أوتوا من قبل البطانة السيئة، التي تهلل له مع كل حركة وسكنة، وتستحسن جميع قبائحه، حتى تصنع منه مستبدا لا يعرف المراجعة ولا النقد الذاتي ولا التقييم لأي من سياساته. ولكن، ما الذي يدفع الحاكم لأن يحيط نفسه ببطانة سوء مع علمه بمساوئ هذه البطانة؟ السبب الأبرز لذلك هو كون هذا الحاكم في الأساس مستبدا، والحاكم المستبد يهتم في المقام الأول بعرشه، لا يهمه شيء أكثر من بقائه على رأس السلطة، ومن ثمّ يختار بطانته، وفقا لما يصب في صالح هذا الهدف، وحتى تتماهى البطانة مع سياساته لا بد من أن تكون بطانة فاسدة، تهدف إلى تحقيق مصالحها من خلال العمل الدؤوب على بقاء الحاكم على عرشه، وتجميل سياساته وتأييدها وتمريرها، للتعمية على فساده. وقد يكون السبب ناتجا عن طبيعة المجتمع الذي يحكمه، فهناك مجتمعات قبلية، ربما يجد الحاكم أنه لا بد من أن يحيط نفسه برجال قبيلته ليكونوا سنده ودعامات عرشه، من دون الاكتراث بمعايير الكفاءة التي قد تنطبق على من هم خارج قبيلته. قد يكون السبب خارجيا، بمعنى وقوع الحاكم تحت سطوة التبعية لدولة ما، تفرض عليه تولية شخصيات تحظى بالقبول لدى الدولة المهيمنة، التي ترى أن وجود هذه الشخصيات الموالية لها في نظام حكم الدولة، يحقق لها مصالحها بصورة أو بأخرى، وهو بدوره لا يستطيع المعارضة، لأنها تملك أوراق ضغط عليه، وتستطيع سلبه عرشه، على سبيل المثال ما تفعله أمريكا مع حلفائها، وقدرتها على إقصاء هؤلاء الحلفاء، كما فعلت مع برويز مشرف وغيره. ومهما كانت الدوافع، فالحاكم الذي يريد مصلحة شعبه، لا يمكن أن يحيد عن إحاطة نفسه بالبطانة الصالحة، لما فيه خير البلاد والعباد، ولا يحيط نفسه ببطانة سوء، إلا مستبد أو خانع أو جاهل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 987