السلطة الفلسطينية .. إفلاس سياسي ووطني

رأى كثيرون في المقابلة التي أجراها باتريك كينسلي المحرر البارز في صحيفة " نيويورك تايمز " مع حسين الشيخ رئيس الهيئة العامة للشئون المدنية الفلسطينية المختصة بالعلاقة مع سلطة الاحتلال ، وأمين سر اللجنة التنفيذية ؛ إشارة قوية إلى قرب خلافته لعباس في رئاسة السلطة الفلسطينية . صحيفة في مقام " نيويورك تايمز " لا تقابل الشخصيات السياسية عشوائيا . وكان تعيينه  أمين سر  اللجنة التنفيذية في  منظمة التحرير الفلسطينية في مايو الماضي قد فسر بأنه خطوة مهمة على سبيل استخلاف عباس . وكل ما يحيط بالشيخ يوضح أن هذا الاستخلاف رغبة إسرائيلية وأميركية مؤيدة من أطراف عربية تدور في فلك أميركا وإسرائيل ، وأن الشعب الفلسطيني يرفض هذا الاختيار ، وفي تعبيره عن هذا الرفض لم يقبله زعيما قادما  سوى 3%  وفق استطلاع رأي ذكرته الصحيفة . ومع معرفة الشيخ بهذه النتيجة المعبرة عن رفض الشعب الصارم له إلا أنه لم يتردد في القول للصحيفة :" أعرف بالضبط كيف أقود شعبي إلى الطريق الصحيح ... " ، وما هو الطريق الصحيح في  رأيه ؟ ! يجيب : " ليس أمام الفلسطينيين خيار سوى الاستمرار في العمل ضمن الترتيب الحالي ..." ، أي بقاء الاحتلال والاستيطان والتهويد المندفع للقدس والأغوار ، وحصار غزة ، وإطلاق السلطة لصيحات الاستغاثة بالعالم للضغط على إسرائيل للتفاوض معها للتوصل إلى حل الدولتين . ويأتي كلام الشيخ للصحيفة بعد زيارة بايدن التي جامل فيها السلطة قائلا إنه يعتقد أن حل الدولتين هو الأفضل للإسرائيليين والفلسطينيين إلا أنه بعيد المنال في الوقت الماثل ، وبعبارة واضحة حازمة: لا أمل بتاتا في الوصول إليه . إنه رئيس أميركا وصديق إسرائيل المجاهر والمفاخر بصهيونيته ، ويعلم علم اليقين أنها لن تقبل دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو 1967 ، أي في الضفة وغزة ، وهذه سياسة إسرائيلية رسمية يعلمها عباس والشيخ وكل الفلسطينيين . وقصارى ما ستقبل به  في الضفة كيان إداري يريحها من أثقال سكانها الفلسطينيين ، ولا يزعج مستوطنيها الإسرائيليين ، وهذا هو غرضها الأساسي من إقامة السلطة في 1994 ، وأما غزة فتريدها أن تبقى في حصارها واختناقها منعا لأي ترابط مع الضفة . وفي هذه الأثناء يزور عباس رومانيا ، وينوي زيارة فرنسا ، وكل زياراته ما عادت يوما بأي فائدة على قضية الشعب الفلسطيني ، وهي ليست أكثر من سياحة له ولمرافقيه باهظة التكاليف المالية . وفي رومانيا قال : " الوضع الحالي غير قابل للاستمرار ، وسنواصل الاتصالات من أجل حشد الدعم الدولي لخلق مبادرات لمنع تدهور الأوضاع فبل فوات الوقت ... " ، وما أكثر ما قال مثل هذا الكلام ، فهل استجاب له أحد ؟! وما أكثر ما هدد بحل السلطة ، وما أكثر ما هدد باتخاذ قرارات حازمة ضد إسرائيل ، وبعد التهديد يظل كل شيء على حاله . والآن يريد خليفته المنتظر حسين الشيخ أن يظل كل شيء على حاله ، وهو ما يلائم إسرائيل أحسن ملاءمة ، ويدمر الشعب الفلسطيني أفظع  تدمير . يقول الشيخ : " إذا كنت سأفكك السلطة فما هو البديل ؟! " ، وجوابه :" البديل هو العنف والفوضى وسفك الدماء ... " ، وكل هذا سيكون بين الإسرائيليين والفلسطينيين . لماذا لا تخاف إسرائيل هذا البديل وتفعل  شيئا يجنبها ويجنب الفلسطينيين هوله  ؟! لعلمها اليقيني أن عباس أو الشيخ لن يحل أي منهما السلطة لكون بقائها مصلحة كبرى لهما ولفتح ، وحلها زوال لهذه المصلحة  ، وبقاؤها أيضا مصلحة إسرائيلية سياسية وأمنية ، والمصلحة الثانية تفسر تمسك  إسرائيل بهذا البقاء ، ومن علاماته العديدة ما كشفه تقرير في صحيفة " يسرائيل هايوم " عن إدارة جهات أمنية إسرائيلية بالتعاون مع وزارة المالية الإسرائيلية صندوقا سريا يحول الأموال إلى السلطة الفلسطينية . فهل تحويل هذه الأموال لمصلحة الشعب الفلسطيني أم لمصلحة إسرائيل ؟! إسرائيل ليست حاتم الطائي . كل دولار تدفعه  يجب أن يعود عليها  بأضعاف قيمته مما تريده .  حسين الشيخ قاوم إسرائيل ، وقضى في سجونها 11 عاما ، وهذا ليس صغير الدلالة على وطنيته إلا أن من ينفع في المقاومة ليس من المحتم  أن ينفع في ولاية الشئون السياسية ، والمقاوم قد تصيب قناعاته التي حفزته على مقاومة عدوه تبدلات في نظرته لهذا العدو لا تفيد قضية شعبه . ويبدو أن هذه التبدلات أصابت الشيخ مثلما أصابت كثيرين من مناضلي فتح ، وللمصالح الشخصية تأثير كبير في هذه التبدلات ، وعمقت إسرائيل هذا التأثير ووسعته في ظل السلطة ، فصار بقاؤها ، السلطة ، مصلحة شخصية مباشرة لهم ، ومصلحة لإسرائيل دولة ومستوطنين ، وما أكبر الفرق بين المصلحتين ! لو سار قادة حركات التحرر في العالم في نفس الطريق الذي انتهت حركة فتح إلى السير فيه ما حرر أولئك  القادة أوطانهم . ما تحررت الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا وسواها من الأوطان ، ولآلت حركاتهم إلى إفلاس سياسي ووطني يشبه الإفلاس الذي يعصف الآن بسلطة عباس . ما المخرج ؟! على الشعب الفلسطيني أن يجيب ، وهو قادر على الإجابة رغم كثرة أعدائه في داخله وفي خارجه ، وإسرائيل وإن بدت مزهوة في عيد التطبيع ، وفي تجديد عمق الاحتضان الأميركي لها الذي جسده إعلان القدس في زيارة بايدن إلا أن أسئلة مصيرية تموج عاصفة في غور روحها بأن التطبيع العربي والاحتضان الأميركي لن يكونا دعامتين ضامنتين لبقائها ، فالخطر المهلك  في داخلها ممثلا في تجذر 8 ملايين فلسطيني في وطنهم ، وفي تمزقاتها السياسية والدينية والعرقية التي أجبرتها على خمسة انتخابات في عامين ونصف ، ولو كان لدى الفلسطينيين قيادة صالحة وشجاعة ومخلصة  لاستثمرت وجودهم البشري الكبير  وهذه التمزقات في انتزاع حقوقهم السياسية والوطنية بدل الحرص على بقاء الحال على ما هو عليه ، والاستغاثة بالعالم لحض إسرائيل على مفاوضات لا ترى لها فيها أي مصلحة ، ولا يستطيع أحد  أن يجبرها عليها . 

وسوم: العدد 989