مجزرة الغوطة: إليوت هغنز وصحافة المواطن
في الذكرى التاسعة للضربة الكيميائية التي نفذّها جيش النظام السوري وطالت بلدات زملكا وعربين وكفر بطنا وعين ترما والمعضمية ومواقع أخرى من الغوطتين الشرقية والغربية في محيط العاصمة دمشق يوم 21 آب (أغسطس) 2013، يظلّ استذكار الضحايا (بين 1127 و1450 قتيلاً، في عدادهم 201 امرأة و107 أطفال) هو الأجدر بالاستعادة، وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً. ثمة، في المقابل، عناصر أخرى تستحق وقفة خاصة لاعتبارات أخرى تتجاوز أسباب تكريم الشهداء، أو تظهير وحشية النظام، أو عجز المجتمع الدولي، أو تسجيل مناسبة جديدة فاضحة لتكريس مبدأ الإفلات من المساءلة والعقاب؛ تتصل بجانب محدد يغيب عادة عن المظاهر المعتادة في إحياء الذكرى: دور الصحافة الاستقصائية، وما بات يُعرف باسم “صحافة المواطن”، في كشف الخفايا التي يحرص الإعلام التقليدي على طمسها عن سابق عمد أو نزولاً عند ضغوطات تمويلية وسياسية وأمنية مختلفة.
آلاف، وربما عشرات الآلاف، من أشرطة الفيديو ذات القيمة التوثيقية والتسجيلية العالية، صوّرها مواطنون متطوعون وناشطون ملتزمون بينهم شهود عيان يصحّ تصنيفهم في خانة الناجين من المجزرة؛ جرى نشرها تباعاً على منصة يوتيوب وفي مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ولعبت وما تزال تلعب دوراً حاسماً في تثبيت جريمة الحرب وتبيان الكثير من تفاصيلها الأقرب إلى أدلة جنائية. وإذْ يضيق المقام، أيّ مقام في الواقع، عن إنصاف أولئك الجنود المجهولين؛ فإنّ واحداً على الأقلّ من أبرز ممثّلي صحافة المواطن يمكن أن يُساق نموذجه نيابة عن العشرات، أو المئات، من نظرائه: البريطاني إليوت وارد هغنز Higgins (1979 ــ)، الذي أطلق في آذار (مارس) 2012 مدوّنة أولى بالاسم المستعار براون موزس، اتخذ لها لاحقاً تسمية Bellingcat، اختصت بتغطية “الربيع العربي” من زاوية موادّ الفيديو المختلفة التي ينشرها النشطاء؛ ثمّ تخصصت، أكثر فأكثر، في تحليل أنواع الأسلحة المستخدمة في النزاعات المسلحة، ولم يطل الوقت حتى باتت المدوّنة مرجعاً لا غنى عنه لدى وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية الكبرى.
ولقد نشر هغنز عن سوريا مجموعة تدوينات متفرقة مبعثرة، انصبت عموماً على تشخيص أنواع المعدات العسكرية التي كانت تصل إلى فصائل المعارضة المسلحة، وتوصيف مصادرها، واستنتاج دلالاتها السياسية والعسكرية؛ لكنّ أولى مدوّناته، “المنظمة” كما يصفها، كانت سلسلة تعليقات حول مجزرة الحولة التي نفذّها النظام ضدّ بلدة تلدو يوم 25 أيار (مايو) 2012، وأوقعت 108 ضحايا، من بينهم 34 امرأة و49 طفلاً. ونزعة التوثيق المتأصلة لديه قادته إلى تصنيف أشرطة الفيديو طبقاً للجهات التي تنشرها، بحيث باتت لديه مجموعة ذات مواصفات مشتركة بلغت في البدء 15 قناة، وانتهت إلى 550. كذلك كانت تصنيفات هغنز للقنابل العنقودية قد قادت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية إلى التعاقد معه للعمل على تحليل قرابة 500 شريط توثّق استخدام تلك القنابل. بعد مجزرة الغوطة، سوف يحتلّ هغنز موقع المرجع الأوثق في تدقيق الملابسات، سواء في تفنيد منكري مسؤولية النظام عن ارتكابها، أو إعانة فريق التحقيق الأممي في العثور على الأدلة.
ومن باب إنصاف الرجل أن تُقتبس هنا حكاية موقع “منت برس” الإخباري الأمريكي الذي كان، بعد أسبوع فقط على المجزرة، قد نشر تقريراً مثيراً بعنوان
“سوريون في الغوطة يزعمون أنّ ثوّاراً تزوّدهم السعودية بالسلاح هم وراء الهجمة الكيميائية”؛ جاء في خلاصته الأكثر دراماتيكية أنّ سوء نقل أسلحة كيميائية أسفر عن انفجارها، وأدى إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا. كان أمراً طبيعياً أن تسارع وكالات الأنباء إلى تلقّف الحكاية، خاصة على خلفية ما كان يتردد من عزم إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على توجيه ضربة إلى النظام السوري عقاباً على تجاوز “الخطّ الأحمر” لاستخدام السلاح الكيميائي؛ وكان المنتظَر أكثر أن تكون وسائل إعلام إيرانية رسمية، وأخرى روسية (بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف نفسه) هي أوّل مَنْ يتبنى المزاعم ويروّج لها.
أولى خيوط التشكيك في هذه الرواية العجيبة جاءت من هغنز، الذي ساق جملة معقدة من المعطيات الدقيقة المضادة، الموثقة بمشاهد الفيديو المتقاطعة وذات المصادر المتعددة، حول الصواريخ التي حملت الرؤوس الكيميائية إلى الغوطة؛ وكيف أنها في عهدة قوّات النظام وحدها، وانطلقت من المواقع التي يسيطر عليها، في جيل قاسيون بصورة خاصة. أكثر من ذلك، دقّق هغنز في هوية موقِّعي التقرير، الأمريكية ديل غافلاك وزميلها الأردني يحيى عبابنة؛ وإذا كان الأخير مغموراً شبه مجهول، فإنّ الأولى كانت مراسلة الأسوشيتد برس، وتقيم في العاصمة الأردنية عمّان منذ عقدين، وتغطي المنطقة في إذاعتَيْن جبارتين، الـ NPR الأمريكية والـ BBC البريطانية، وهي ــ كما تعرّف عن نفسها، على الأقلّ ــ “أخصائية”، تحمل الماجستير في الدراسات الشرق ـ أوسطية من جامعة شيكاغو.
وهكذا افتُضحت الأكذوبة تباعاً، فكتبت غافلاك إلى هغنز، وإلى صحافيين في مواقع أخرى بينهم روبرت ماكي من “نيويورك تايمز”، تقرّ بأنها لم تذهب إلى سوريا، ولم تستمع بنفسها إلى أقوال أهل الغوطة، ودورها في التقرير هو نقل أفكار زميلها عبابنة إلى الإنكليزية؛ وأنها أوصت تحرير “منت برس” بالامتناع عن وضع اسمها على المادة، لكنهم رفضوا، ولهذا فإنها تنوي مقاضاة الموقع. من جانبه، توارى عبابنة عن الأنظار، فمسح المعلومات القليلة المتوفرة عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتهرّب من الصحافيين الذين حاولوا التحقق من صحة تقريره؛ قبل أن يتضح أنه دائم الزيارات إلى روسيا، ويكتب في “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية باسم “يان بركات”، وله باع طويل في تقديم الخدمات السياحية للإسرائيليين!
هذه التفاصيل، وسواها الكثير الدامغ حول الضربات الكيميائية التي نفذها النظام السوري في مواقع مختلفة من سوريا، يجمعها اليوم كتاب هغنز “نحن البلينغكات: وكالة استخبارات من أجل الشعب”، الذي صدر هذا العام عن منشورات بلومزبري في لندن، وضمّ خمسة فصول طافحة بالمعطيات. وإذا كانت صفحات الكتاب تميط اللثام عن جرائم الحرب التي يرتكبها طغاة هنا وهناك، من بشار الأسد في سوريا إلى فلاديمير بوتين في أوكرانيا؛ فإنها، أيضاً، تكشف قسطاً غير قليل من عورات مؤسسات إعلامية عملاقة، تتستر على الحقيقة بقدر ما تتواطأ على الفظائع. ولعلّ طرافة عنوان الفصل الرابع، “فأر يصطاد هرّاً”، ليست سوى وجه الكوميديا الدموي الذي تعتمده أجهزة استخبارات الكرملين، لاغتيال المعارض الروسي سيرغي سكريبال باستخدام غاز الأعصاب نوفيتشوك.
ويكتب هغنز أنّ ملابسات هذه الجريمة، ودور الـ”بلينغكات” في تسليط الضوء على مضامينها الكيميائية تحديداً، كانت بمثابة إعادة إنتاج للكثير من العناصر التي كانت وراء تعرية الضربة الكيميائية التي استهدفت الغوطتين الشرقية والغربية: “جريمة بأسلحة كيميائية، حكومة متسلطة تكذب على العالم وتتوقع الإفلات من العقاب، حملة تضليل معلومات على الإنترنت، سلطات غربية تجهد لحلّ القضية، ومحققون مواطنون يتصدّون وليس في حوزتهم سوى الحقائق ذات الصلة، وأنّ الدليل ظاهر بادٍ للعيان، والتدقيق مطلوب ومثله المحاسبة”. المأساوي، في المقابل، أنّ مجرم الحرب الذي أمر باستهداف الغوطتين لا يخضع اليوم إلى أيّ طراز من المساءلة القانونية، ويتمرّغ أكثر فأكثر في أحضان رعاته وسادته المجرمين الكبار، بل وينتظر استكمال إعادة تأهيله وتبييض صفحته الإجرامية وغسل يديه من دماء الضحايا الأبرياء.
وسوم: العدد 995