كيف تفوق «الديهي» على نادية الجندي في «مهمة في تل أبيب»!
لو صبر الباحث الأنثروبولوجي «والتر أرمبرست» قليلاً، لوجد أن الظاهرة الأحق بالدراسة في مجال تخصصه، ليست ظاهرة توفيق عكاشة، ولكن ظاهرة نشأت الديهي، صحيح أن الأخير يفتقد للذيوع والانتشار والتحقق، لكن وصوله لما فيه الآن، ونجاحه في خداع أجهزة استخبارات لا يشكك أحد في قدراتها، ثم استمراره في الصدارة إلى الآن، رغم افتقاده لأية موهبة، على العكس من عكاشة الذي انتهى سريعاً، كل هذا يجعله الأجدر ببحث «والتر أرمبرست»!
فقد عثرت أخيراً على نسخة من كتاب «حاوي الثورة.. دراسة أنثروبولوجية لظاهرة توفيق عكاشة» للباحث سالف الذكر، وقد ترجم الدراسة طارق رمضان، ومنذ أن علمت بأمر الكتاب وأنا على تواصل بالناشر: «مركز نماء للبحوث والدراسات»، للحصول على نسخة منه، ليس لمعرفة معلومات عن الشخص لا أعرفها، ففي الحقيقة أنني أعرف عنه أكثر مما يعرفه أي مستشرق، ولكن الأمر مرتبط باهتماماتي بهذا اللون من الدراسات، والتي كانت موضوعي في الدراسات العليا التي لم تكتمل!
الدراسة كانت تحمل عنوان «المحتال»، والمترجم رأى أن اختيار اسم «الحاوي» أكثر لطفاً، لكنه في الجانب الخاص بالتعريف لم يجد بداً من ذكر المفردتين: «الحاوي أو المحتال»، وهو يطرح سؤالاً في البداية: هل يستحق الأمر حقا؟!
ليجيب بما أجاب به الروائي التشيكي في روايته «كائن لا تحتمل خفته»: «وحدها الأسئلة الساذجة، هي الأسئلة الهامة فعلا. ويضيف: «أرمبرست قرر أن يأخذ عكاشة على محمل الجمل، ولكنه لن يتعامل معه هنا كمجرد شخص وإنما كظاهرة عابرة للثقافات.. «كيف لشخص مغمور تماما أن يبزغ فجأة ويشتهر في بيئة سياسية ما، بحيث يتحول الى شخص مؤثر فيها، على الرغم من كونه لا يتمتع بالإمكانيات التي تؤهله للعب هذا الدور المؤثر؟»!
مفجر الثورة:
عين وأصابت توفيق عكاشة، فقد أحيل للتقاعد المبكر، لخطأ في حساباته، إذ اعتقد أنه شريك في الثورة (يقصد 30 يونيو/حزيران) بل وأنه مفجرها، وإذا كان عبد الفتاح السيسي سيصبح رئيساً للجمهورية، فليس أقل من أن يصبح رئيسا للبرلمان، وعندما شعر أن هناك مؤامرة ضده، استضاف السفير الإسرائيلي في منزله ليشكو له، وتم افتعال أزمة في البرلمان، بسبب ذلك ليتم شطب عضويته فيه، واغلاق قناته «الفراعين»، لأنه بسيط في تفكيره، فلم يعرف أن الحكم لا يقبل الشراكة، وأن سادة مصر الذين دفعوا بمحمد علي باشا ليكون والياً عليها، كانوا أول من نكل بهم، وأن عبد الناصر تخلص من شركاء الثورة، واحداً واحداً، فلم يبق سوى على إثنين بلا أطماع هما أنور السادات وحسين الشافعي!
وقد كتب عكاشة مؤخراً يشكو الفاقة، وكيف يتم حصاره، ومنعه من العمل، وتشويه سمعته، بعد اغلاق قناته، والادعاء بأنه زور شهادة الدكتوراه. وكانت رسالة لناكر جميله عليه، لا تخطئ العين لمن توجه بها، وهذا هو حال الدنيا، ولو دقق في الأمر لعلم إنها السياسة المتبعة، فلم يستفد أحد من ثوار 30 يونيو/حزيران من الحكم الذي جاءوا به، سوى ثلاثي تمرد، وهم حماية إماراتية، ثم إنهم لا يذكرون بدور، ولا يطمعون بأكثر من عضوية البرلمان، وعندما استنكر أحدهم عدم ذكر اسمه في مسلسل «الاختيار 3» ودوره في الانقلاب على مرسي، قام فوراً بحذف المنشور الذي نشره على «تويتر»، وكتب اشادة بالحكم، وكيف أنه لن يكون أداة يستخدمها الإخوان في الدعاية ضد المسلسل!
سوابق الديهي:
ومن هنا تأتي قيمة نشأت الديهي إنه رجل الإمارات، لكنه لم يدع أنه صاحب فضل على السيسي، فقد تنكر لكل مواقفه بعد الثورة، مع أنه حيا شباب الثورة، وتم تقديمه على أنه رئيس مركز دراسات الثورة، واندفع يهاجم 25 يناير/كانون الثاني، ومن شاركوا فيها، ويتهمهم بالخيانة، استغلالاً لحالة الغيبوبة التي يعاني منها الجميع، ولا أنكر أنني لم أنتبه لنشأت الديهي، إلا بعد أن صار مذيعاً ومالكاً لقناة «تن» الإماراتية بعد حكم الانقلاب العسكري، لكن البرنامج الساخر على التلفزيون العربي «جو شو» ضبطه متلبساً بالتأييد والمباهاة بـ»ثورة يناير» وشبابها الثائر!
في الواقع، إنه بدا واضحاً أن جناحا في السلطة الحالية عز عليه وضع توفيق عكاشة، كما عز عليه فشل إعلامهم فأعيد مذيعاً على إحدى القنوات، لكنه كان قد مات بالحياة، وبدا كمقلد لنفسه، وتوقف برنامجه الذي لم يسمع بعودته أحد سوايا تقريباً!
لا أنكر تأثير عكاشة في العامة، بل والنخبة الجاهلة بالسياسة التي جلست أمامه تتعلم وذلك في سنة حكم الرئيس محمد مرسي، ولم أخذه بالجدية إلا في الوقت الضائع، عندما دخلت على أحد الأقسام الإدارية بجريدتنا ووجدت نقاشاً حول ما قاله في الحلقة الأخيرة، أدهشني الأمر في البداية، وعندما صمتوا طلبت منهم الاستمرار، لأناقش الأمر بجدية، وامتد النقاش إلى خارج مقر عملي لأكتشف هذا التأثير، لكن أحداً لا يتذكر «نشأت الديهي»، وإذ قلت إنه أولى بالبحث الأنثروبولوجي من توفيق عكاشة، فلأن تأثيره كان أبلغ الأثر، فيتم التعامل معه فعلاً على أنه خبير في الشأن التركي، وأنه كان يعمل في القناة التركية الناطقة باللغة العربية، وأنه كان يقيم في أنقرة، فينتقل من المجهول إلى مذيع، ومالك، لقناة إماراتية استخدمته هذه الدولة في النيل من أردوغان، وتستمر القناة في انتظار خلاف قادم، يكون لازما أن تدخل بثقلها في المعركة بمدفعيتها الثقيلة ممثلة في نشأت الخبير في الشأن التركي!
نحن نعرف توفيق عكاشة، أصله وفصله المهني، فقد كان مذيعاً في التلفزيون المصري، في وقت كانت الكفاءة ليست معياراً للحصول على وظيفة فيه، حتى صرخت مسؤولة بضرورة تمرير نسبة في كل مرة يمكنها أن تقوم بالعمل في المستقبل، بعد أن كانت المجاملات هي النسبة المعترف بها، ثم إن عكاشة مالك لقناة هي «الفراعين»!
بيد أن الديهي من خارج الحيز العمراني، بتنظيمه وعشوائيته، لقد هبط ضيفاً على القنوات التلفزيونية بعد الثورة، وكانت الصفة الثابتة فيه هي (دكتور)، والمتغير كثير، فهو الدكتور الكاتب والأديب، والدكتور الخبير الاقتصادي، والدكتور الخبير في البورصة، والدكتور أستاذ العلوم السياسية، والدكتور رئيس مركز دراسات الثورة، والدكتور رئيس المركز الإعلامي لمجموعة دبي العالمية، والدكتور المتخصص في الشأن التركي!
وهو لم يكن أي شيء من هذا، فهو موظف صغير، وسكرتير لنائب بدائرتهم، ولعل انتشاره غير المؤثر في البرامج التلفزيونية وبتعريفات مختلفة، يفتح الباب لدارسة موضوع لم يدرس أكاديمياً وهو المسؤولون عن الاستضافة في القنوات التلفزيونية المختلفة، وأكاد أتخيل ما حدث، فأحد الأشخاص بأحد البرامج استغل السيولة في مرحلة ما بعد الثورة واستضاف نشأت الديهي، وقدمه باللقب المغري (الدكتور) بعدها فتحت له القنوات والبرامج ربما جانب من ذلك مجاملات وجانب مرتبط بفكرة الاستسهال وتعبئة الهواء بأي شكل!
ولم يكن يفتقد للمهارات اللازمة للاستمرار، فلأنها كانت مرحلة المد الإسلامي، فقد قدم نفسه باعتباره ابن هذا المشروع، ولما فاز محمد مرسي، كان في أدائه اخوانيا أكثر من ممثل الإخوان في أحد البرامج التلفزيونية، وفي برنامج آخر هاجم النخبة والشعب والأحزاب دفاعاً عن الرئيس في رحلته للصين لجذب الاستثمارات، فلما حدث الانقلاب، استقال من القناة التركية، دون أن يربطه عقد عمل بها، ثم نشر الخبر على أنه كان يعيش في أنقرة ليسأله مذيع (صديق) إن كان أحد قد استقبله في مطار القاهرة بعد عودته من تركيا مستقيلاً، ونفى ذلك في أسى، مع أن الاستقالة الشكلية كانت من استوديو بجوار حديقة حيوانات الجيزة في القاهرة الكبرى!
لكن الدعاية لهذه الاستقالة التاريخية، فتحت له أبواب دولة الإمارات خبيراً تركياً وصاحب موقف ضد الأتراك، ليكون بقدرته على الخداع، أكثر براعة من نادية الجندي في فيلم «مهمة في تل أبيب»!
إنه الأولى بالدراسة الأنثروبولوجية من توفيق عكاشة!
وسوم: العدد 996