الإعجاب بتوافه الأمور دليل على تفاهة المعجب بها
رحم الله تعالى الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي القائل :
على قدر أهل العزم تأتي العزائـــم وتأتي على قدر الكرام المكـارم
وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
والشاهد عندنا في هذا المقال هو الشطر الأول من البيت الثاني، وهو قوله : " وتصغر في عين الصغير صغارها " ،وهو يقصد بالصغير الحقير الذي يرى الأمور الحقيرة عظيمة ، ويفهم ذلك من الشطر الثاني من هذا البيت حيث قابل بين الحقير والعظيم لاختلاف شأنهما في الحكم على الأمور بعد أن قدّم في البيت الأول حديثا عن العزائم والمكارم التي تكون حسب أقدار أصحابها.
ومقابل العظيم الذي يستصغر عظائم الأمور ، فإن الصغير أو الحقير يستعظم توافهها . وما أكثر توافه الأمور التي صارت في زماننا هذا تستعظم ، وذلك يدل على تفاهة من يستعظمونها حتى وإن تبوءوا المناصب والمراتب العليا ،لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تجعل من الصغير أو الحقير عظيما تماما كما يقول المثل القائل " اللباس لا يصنع راهبا " ، وقياسا على هذا ، فالمناصب والمراتب لا تكسب قدرا أو قيمة لمن لا أقدار ولا قيمة لهم .
ولقد كثرت في زماننا هذا مواقع للتواصل الاجتماعي مع تطور تكنولوجيا التواصل والتي شغلها الشاغل هو تعظم توافه الأمور ، فيقبل عليها بتهافت توافه الناس ، وكأمثلة لا يراد بها حصرا ،نذكر منها ما ينشر عن بعض المحسوبين والمحسوبات على الفن أو الرياضة أو غيرهما عندنا من أمورهم تتعبق بأحوالهم الشخصية ، وبعلاقاتهم الأسرية ، وبخلافاتهم ، وبما بلبسون ، وما يأكلون ويشربون وبظعنهم وإقامتهم ... إلى غير ذلك مما تظنه تلك المواقع من أحوال المشاهير بالرغم من كونها أمورا لا يختلف فيها مشهور عن مغمور ، ذلك أن اللباس المكشوف الذي قد تلبسه فنانة مشهورة ليس فيه ما يميزه عن مثله الذي تلبسه امرأة مغمورة ، كما أنه ليس فيما يقع بين الأزواج المشاهر من خلافات عائلية أو أسرية ما يميزها عما يقع بين عموم الأزواج حتى تصير أحاديث يتهافت عليها الناس بسبب ما تضفيه عليها تلك المواقع من أهمية زائفة .
ولا شك أن هذه العادة قد انتقلت إلينا عبر التقليد من بلاد الغرب التي يعير الإعلام فيها الأهمية المبالغ فيها حتى بكلاب وقطط مشاهير الفنانين والرياضيين مع أنها كلاب تنبح ككل الكلاب ، وقطط تموء كمواء كل القطط ، فضلا عن إسهابه في إشهار ما يلبسون ، ما يشربون، وما يأكلون، وما يركبون .... وما يتعلق بزواجهم وطلاقهم وخلافاتهم الأسرية لهذا صارت المواقع عندنا تحذو في إشهار ذلك بعد إسقاطه على من يمتهنون في بلادنا الفن أو الرياضة أو غيرهما حذو المواقع في بلاد الغرب .
ولقد صارت الثقافة السائد عند هذه المواقع ، هي ثقافة تسويق التوافه والتي تروج لها صباح مسا ، وهو ما يجعل ممن يستهلكون ذلك بنهم ضحايا التفاهة باستعظامهم لتلك التوافه .
وقد يسلس مع شديد الأسف بعض ذوي المناصب العليا قيادهم لبعض تلك المواقع لتعبث بهم فتسألهم عن توافه الأمور ، وتستدرجهم للحديث عنها ساخرة منهم ،مستهزئة بهم ليصبحوا بذلك أضحوكات يتندر بهم الرأي العام الوطني ، وهو ما لا يناسب مناصبهم التي تتطلب منهم الترفع عن تلك التوافه حفاظا على سمعتها .
ولقد كان أهل المناصب العلمية قديما ، ولا زال بعضهم كذلك إلى يومنا هذا يتنكبون خوارم المروءة ، فيكرهون أن يراه العامة على سبيل المثال يأكلون في الأسواق أو يأتون من التصرفات أقوالا وأفعالا من شأنها أن تقدح في مكانتهم العلمية التي هي محل احترام وتقدير العامة والخاصة .
فمتى ستحيد مواقع التواصل الاجتماعي عندنا عن آفة تعظيم توافه الأمور؟ ومتى سيترفع ذوو المناصب عن الخوض فيها إعلاميا .
وسوم: العدد 999