وقفة مع ما صرح به وزير التربية الوطنية بخصوص إصلاح المنظومة التربوية المتوقع
من المعلوم أن منظومتنا التربوية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا والوزراء المتعاقبون على الوزارة الوصية علي قطاع التربية يصرحون الواحد تلو الآخر بما يسمونه " إصلاح " ،وهي لفظة يستدعيها بالضرورة وجود فساد ، والشاهد على ذلك من كتاب الله عز وجل، وهو أصدق الحديث على الإطلاق قول الله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام : (( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب )) ، وكان كلامه هذا الموجه إلى قومه مسبوقا بالحديث عن فساد منظومتهم الاقتصادية حيث قال لهم : (( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )) ، فجعل إصلاحه المقترح عليهم لمنظومتهم الاقتصادية مقابلا لما كان فيها من فساد .
وبناء على هذا يكون تصريح كل وزير على قطاع التربية في بلادنا يعقب سلفه بإصلاح المنظومة التربوية دالا على فساد اعتراها في فترة سلفه . والمفارقة أن كل وزير يحل محل سابقه يقف أمام وسائل الإعلام يمتدحه ،ويشكره على ما حققه من نتائج ، ويشيد بمجهوداته، وبكفاءته بغض النظرعن سبب تسريحه من الوزارة تصريحا أو تلميحا، ولكنه سرعان ما ينهج تدبيرا للوزارة مخالفا لتدبير سلفه، الشيء الذي يعني عكس تلك المجاملة البروتكولية ، كما يعني في نفس الوقت التصريح بفساد تدبير الوزير السابق وفق منطق النبي شعيب عليه السلام الذي بموجبه يعقب الإصلاح بالضرورة فسادا . وإذا كان الوزراء المتعاقبون على وزارة الشأن التربوي لا يقصدون هذه الدلالة للفظة إصلاح، فعليهم أن يجدوا بدائل عنها من قبيل الاستكمال أو التطوير أو التحسين ... لتكون المجاملة بينهم حين يخلف أحدهم الآخر على الوزارة منطقية شيئا ما ،و ذلك لأن المنطق يقتضي أن تدل سلسلة الإصلاحات المتعاقبة على قطاع التربية بتعاقب الوزراء على سلسلة مماثلة من الفساد الذي يعتريه .
ولسنا ندري إلى متى سيكون قدر التربية في بلادنا هو التأرجح بين قطبي ثنائية الفساد والإصلاح إلى ما لا نهاية له ؟ كما أننا لا ندري متى سترجّح كفة الإصلاح على الفساد ، ويكون حينئذ عمل اللاحق من الوزراء بالسابق مجرد مواصلة أو تعزيز الإصلاح أوترسيخه دون الحاجة إلى ادعائه لنفسه مقابل اتهام غيره بالفساد ،علما بأن فساد التدبيرإنما يكون من فساد المدبر بالضرورة .
وها نحن اليوم مع الوزير الحالي على قطاع التربية نسمع بإصلاح جديد للمنظومة التربوية صرح به يوم أمس أمام وسائل الإعلام لتبلغه بدورها إلى الرأي العالم الوطني . وأول ما صرح به أن الإصلاح الذي اقترحه جاء نتيجة مشاركة عدة أطراف منهم من سماهم فاعلين تربويين ، ومنهم من سماهم متدخلين ، ومنهم من سماهم شركاء، انخرطوا جميعا في مشاورات وطنية موسعة ، ونحن نأمل أن تكون بالفعل تلك المشاورات وطنية وموسعة صرفة، ولا دخل فيها لإملاءات خارجية مفروضة بناء على ما يسمى بمعاهدات واتفاقيات موقعة مع الأغيار، و يكون في دسمها سم مدسوس لناشئتنا المتعلمة تظهر آثاره القاتلة فيما بعد لا قدر الله مستقبلا .
وأول ما يستوقفنا فيما أعلنه السيد الوزير وسماه خارطة أو خريطة طريق من أجل مدرسة عمومية ذات جودة للجميع أنه يفهم من رفعه هذا الشعار أن واقع حال هذه المدرسة هو افتقارها إلى الجودة إما انعداما أو نقصانا ، لأن التجويد هو بطبيعته تحسين ما ينقصه الحسن ، وهذا يقتضي أن تكون خارطة الطريق هذه بالفعل ذات قيمة مضافة من السابق للأوان الجزم بأنها كذلك إلى أن تحل سنة 2026 بمشيئة الله اتعالى . وهنا نتساءل ما الذي جعل السيد الوزير يحدد فترة أربع سنوات للإصلاح الذي اقترحه ،علما بأن تجريب كل إصلاح يقتضي أن يكون مسايرا لفترات مراحل التعليم أولية ،وابتدائية، وإعدادية، وتأهيلية بعد نهاية كل واحدة منها وتحديدا عند المحطات الإشهادية للحكم على النتائج التي حققها ذلك الإصلاح .
ونسجل بعد ذلك أن السيد الوزير ركز في إصلاحه على ما سماه ثلاثة أقطاب هي : ( المتعلم ، والمعلم ، والمؤسسة التعليمية ) متجاهلا شركاء آخرين إلى جانب هذه الأقطاب الثلاثة هم رجال الإدارة التربوية ، ورجال الإشراف التربوية ، وحبذا لو أضاف إلى أقطابه الثلاثة هذين القطبي ( المدير والمشرف التربوي). وتجاهل هؤلاء في إعلان الوزير يعني أحد أمرين إما أن الإدارة التربوية ، والإشراف التربوي في حالة جيدة لا يحتاجان إلى تحسين وواقع الحال لا يقر بذلك أو أنهما في نظر الوزير أهميتهما لا ترقى إلى أهمية أقطابه الثلاثة التي صرح بها .
ولقد مرت سنوات طويلة ورجال ونساء الإدارة التربوية يطالبون بمراكز تكوين أساسي يتخرجون منها بدبلومات مهنية على غرار مركز تكوين أطر التدريس وأطر الإشراف التربوي ،وباقي الأطر ذات الصلة بقطاع التربية . ولا زال أطر الإدارة التربوية يمرون بما يسمى تكوينا وهو لا يعدو ما يسمى مصاحبة ميدانية تكون عبارة عن جلسات معدودة بينهم وبين أطر الإشراف التربوي على اختلاف تخصصاتها، يعقبها إقرارهم في مناصبهم ، ولا يمكن أن يعتبر هذا بحال منة الأحوال تكوينا بديلا عن تكوين أساسي بالمعنى الصحيح للتكوين الإداري .
ولقد حدد الوزير أهداف إصلاحه وهي عبارة عن تعلمات أساسية ، وأنشطة موازية ، وحد من الهدر المدرسي ، وجعل من مقتضيات تحقيقها الفضاءات الآمنة والملائمة لاستقبال المتعلمين ، وتوفير مدرسين متمكنين . أما الفضاءات فواقع حالها ناطق بصدق على عدم ملاءمتها للوظيفة المنوظة بها ، فهل يستطيع السيد الوزير في أربع سنوات الرقي بها إلى مستوى الملاءمة المنشودة ؟ وأما المدرسون المتمكنون، فلا ندري كيف سيحصل تمكنهم عبر مسار خال من تكوين أساسي داخل مراكز تكوين تعدهم الإعداد الجيد لمهمة التدريس خصوصا وأن ما يسمى التعاقد قد طوح بحاملي شهادات جامعية في ميدان التدريس دون تكوين أساسي أو بتكوين ترقيعي بديل عنه علما يأن التكوين الأساسي يمكنهم من تطويع معلوماتهم الأكاديمية إلى ممارسة بداغوجية تراعي طبيعة شرائح ومستويات المتعلمين وقدراتهم ، ويدعمهم التكوين المصاحب والذاتي الميدانيين . والسؤال المطروح هل سيفتح السيد الوزير مراكز لتكوين المدرسين ولإعادة تكوين من فاتهم التكوين ؟ وهل يمكن استدراك ما فاتهم منه وقد تعلموا في الناشئة كما يتعلم الحلاقون الجدد في رؤوس الأيتام كما يقول المثل المغربي ؟
وننتقل بعد ذلك إلى ما سماه الوزير تعلمات أساس ، وهو يقصد دون شك ( القراءة، والكتابة ، والحساب ) علما بأن هذه محكومة ضرورة بازدواجية لغة التعلم ( عربية وأجنبية ) . واللغة الأجنبية أو اللغات ،ويقصد بها الفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية لا زالت موضوع نقاش طويل عريض ومتشعب عند الرأي العام الوطني ، فهل ستبقى الفرنسية في خارطة طريق السيد الوزير دائما هي اللغة الأجنبية الأولى التي تدرس بها مختلف العلوم والمعارف؟ أم أن اللغة الإنجليزية ستصادر منها مكانتها الأولى في ظل العلاقة التي شابها التوتر بين بلدنا وفرنسا ، علما بأن أصوات الفعاليات العلمية والتربوية الخبيرة من غير الشريحة الفرنكوفونية، ترتفع وتيرتها لترجيح كفة الإنجليزية على كفة الفرنسية ليس تعصبا لها كتعصب الشريحة الفرنكوفونية للفرنسية بل لأنها لغة العلوم والمعارف العالمية ، ولأن الفرنسية لا تجاريها في ذلك بل لا تتعلق بغبارها من وجهة نظر أهل المعرفة والعلم من أبنائنا وبناتنا الذين يتابعون دراساتهم العليا التخصصية في معاهد دولية ، فلا يسعفهم زادهم من الفرنسية على اقتحام ما لا تستطيعه هي حتى بالنسبة لأبنائها وبناتها لتمكينهم مما يطلبونه من تخصصات علمية ومعرفية . ولا ندري هل فرنكوفونية السيد الوزير ستسمح له بعقوقها، فيؤثرعليها الإنجليزية كلغة أجنبية أولى عوضا عن الفرنسية ؟
ومما يسترعي الانتباه أيضا في تصريح السيد الوزير خلال حديثه عما يكسب المتعلمين في الطورين الأولي والابتدائي أو لنقل الأساسي معارف وكفايات ومهارات ضرورية إشارته إلى ما سماه تعزيز التفتح والمواطنة وتنمية القيم الوطنية والكونية قافزا على القيم الدينية التي هي صمام أمان تربية ناشئتنا ، ولا ندري هل كان ذلك سهوا منه أم أنه تعمد القفز على البعد الديني مع أنه لم يغيّب ما سماه البعد الكوني ، وهو في الحقيقة دون حجم ما هو كوني ، وكان الأجدر به أن يسميه غربيا بما له من طابع علماني يأبى أهله إلا اعتباره كونيا لفرضه فرضا على كل أمم المعمور . ولا يخفى ما لهذا الذي يسمى قيما كونية من تناقض أحيانا صارخا مع قيمنا الإسلامية ، ولا شك أن الوزير على وعي بذلك وهو ما جعله يعدل عن ذكر القيم الإسلامية إلى ذكر القيم الوطنية تلطيفا لوقع صفة الإسلامية في خارطة طريقه خصوصا وأن ما سماه قياما كونية (غربية ) لديها حساسية تجا ه كل ما له علاقة بالإسلام .
ونسأل السيد الوزير عن موقع صندوق النقد الدولي من الإعراب في خارطة طريقه التي اقترحها للتنزيل والتفعيل ، علما بأن هذا الصندوق له دائما موقع إعرابي خطير في كل المنظومات التربوية، وله حضور في كل الإصلاحات التي تمسها لأنها متربطة بما سماه السيد الوزير تأمين الموارد المالية اللازمة لإنجاح إصلاحه المقترح ،وهي مربط الفرس ، أوبيت القصيد في كل إصلاح محتمل ؟
وإلى أن يحين وقت تفعيل خارطة الطريق ستكون لنا وقفة أخرى أو ربما وقفات يمليها الشعور بالواجب المهني حتى ونحن خارج الخدمة ورهن التقاعد ، ولو أن السيد الوزير استدعى المتقاعدين من الأطر التربوية من مختلف التخصصات لوجد لديهم من الاقتراحات الوازنة بحكم خبرتهم وممارستهم السابقة الشيء الذي يوفر مكاسب وازنة لخارطة طريقه .
وسوم: العدد 1006