من الكويت إلى أوكرانيا – الحسابات الخاطئة للقيادة الفردية
كثير من الحروب أشعلت في لحظة غضب الزعيم، أو نتيجة حسابات خاطئة يتخذها قائد أو رئيس سلطوي بمفرده، لأنه يعتقد أنه دائما على صواب، وأنه ليس بحاجة إلى استشارة أو نصيحة أو مراجعة أو رقابة تشريعية أو قضائية فهو صاحب الحل والعقد، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة والوحيدة، وهو لا ينطق عن الهوى فهو الذكي والملهم والمهيب والحصيف، الذي جمع كل أطراف المجد واختصرت البلاد وعزتها واستقلالها وكرامتها في شخصه كما قال الملك الفرنسي المستبد لويس الرابع عشر: «أنا الدولة والدولة أنا». لم تتغير تلك القاعدة، خاصة في العالم العربي فما زال في زماننا من يرى نفسه فوق البشر، ويعتقد أنه يملك الحقيقة كلها. يحيط نفسه بثلة من المتزلفين يعظمون محاسنه ويخفون عيوبه. وفي لحظة حنق وانفعال يأخذ الزعيم قرارا خطيرا، من دون تبصر، أو دراية، أو مراجعة من المستشارين، أو تأييد من البرلمان حتى لو أن ذلك القرار فخ نصب له بعناية لتوريطه في معركة غير متكافئة، لكنه يركب رأسه ويورط البلاد والعباد في حروب ومصائب وكوارث سياسية واقتصادية وعسكرية وإنسانية واجتماعية وأخلاقية، يدفع ثمنها ليس الزعيم فحسب بل الشعب بكامله ودول الجوار والأجيال القادمة ويضع سيادة الدولة واستقرارها على المحك.
تذكرت هذه القاعدة بعد انسحاب القوات الروسية من مدينة خيرسون الأوكرانية، التي كانت قد أعلنت أنها جزء من روسيا، حيث قرر سكانها عبر استفتاء حر ونزيه ومراقب في أواخر أيلول/سبتمبر بنسبة 92% أنها جزء لا يتجزأ من روسيا. يذكرني هذا بإعلان الكويت المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق في الساعات الأولى ليوم 2 آب/أغسطس 1990 عندما ابتلع الجيش العراقي الدولة كلها وعين محافظا لها. لكن ذلك لم يدم طويلا وانتهت هذه الترتيبات بعد خمسة أشهر ونصف الشهر فقط، لكن آثارها لم تنته لغاية اليوم، وما زال العراق يدفع ثمن ذلك الخطأ المميت، الذي اتخذ من دون رويّة أو تفكير كما سنبين. طبعا هناك فروق كبيرة جدا بين الكويت وأوكرانيا، لكنني سأحاول سبر أغوار التطورات المتشابهة في الحالتين.
الحالة في العراق
خرج الجيش العراقي بعد حرب ثماني سنوات مع الجار الإيراني منهكا، وخرج العراق مثقلا بالديون. تركت تلك الحرب أزيد من مليون عراقي ضحايا لتلك الحرب، إضافة إلى الدمار وملايين اللاجئين وحصار شامل استمر أكثر من 13 سنة. الجيش العراقي لم يهزم، ولكنه لم يحقق نصرا حاسما، لكن الانتصار الأخير في شبه جزيرة الفاو في نيسان/أبريل 1988 أجبر القيادة الإيرانية على قبول قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار 598 (1987). كانت القيادة العراقية تتوقع أن يتواصل استمرار دعم الخليج للعراق بعد انتهاء الحرب، لأن الجيش العراقي هو الذي حمى دول الخليج من لهيب ثورة الخميني، حيث تمكنت تلك الحرب الطويلة والمكلفة من احتواء الثورة الإسلامية في حدود الدولة الإيرانية، ولذلك من حق العراق أن يستمر في تلقي المساعدات وهو ما لم يحدث. تفاقمت الخلافات بين الطرفين، واستطاعت الولايات المتحدة توريط القيادة العراقية في غزو الكويت، بعد أن أكدت السفيرة الأمريكية أبريل غلاسبي للرئيس صدام حسين، أن بلادها لا تتدخل في النزاعات العربية العربية. تم الغزو والاحتلال وإعلان الكويت المحافظة التاسعة عشرة. فأين مكمن الخطأ والحسابات المغلوطة:
– بعد انهيار جدار برلين عام 1989 وبداية تصدع الاتحاد السوفييتي والتفرد الأمريكي في الهيمنة العالمية، كيف لا يتنبه قائد حصيف لمثل هذه الحقيقة والتغيرات على الأرض، بعد أن شاهد غزو الرئيس بوش لبنما عام 1989. كيف لم يتنبه إلى أن الشريك السوفييتي ينهار أمام عيون العالم والمراهنة عليه كمن يراهن على حصان أعرج في سباق لا يضم إلا الجياد الأصيلة؛
– كيف يتوقع قائد حصيف أن يتحدى منطقة إنتاج النفط الاستراتيجية للولايات المتحدة، بعد أن أنشأت قوات التدخل السريع أيام الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر عام 1979 بعد الثورة الخمينية للتدرب على التدخل لحماية آبار النفط الخليجية؛
– كيف لم يحسب ذلك القائد أن جيشه سيواجه جيوش الناتو التي بدأت تتجمع في حفر الباطن، وكيف له أن يدير ظهره لكل محاولات إقناعه بالانسحاب التي قام بها صديقه بريماكوف، مراسل «البرافدا» في العراق سابقا، وكذلك وساطة الأمين العام بيريز دي كويار الذي تركه ينتظر نحو 13 ساعة وعندما دخل عليه ألقى عليه محاضرة لمدة أربع ساعات، وعندما هم بالخروج سأله حرفيا: سيادة الرئيس لم أفهم منك هل ستنسحب أم لا؟ أنا أضمن لك سلامة الجيش العراقي عند الانسحاب، وضمان حل المشاكل بين الكويت والعراق بالطرق السلمية والتركيز بعدها على القضية الفلسطينية. لا جواب؛
– ثم أخيرا من أعلن أن الكويت الولاية التاسعة عشرة، لماذا تم تفكيك كل مفاصل الدولة ونهب كل خيراتها وحوانيتها وسياراتها ومتاحفها، وكل ما وقعت أيدي المتطوعين عليه حتى مقتنيات حديقة الحيوانات. كل الخسائر أحصيت بالدقة وأنشئ صندوق خاص للتعويضات، كانت تحسم من بيع النفط العراقي. وما زال العراق مدينا بنحو 15 مليار دولار تتسامح الكويت في موضوع سداد هذه المبالغ.
حسابات خاطئة في أوكرانيا
أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما سماها «عملية عسكرية خاصة» في أوكرانيا، من دون أن يعرف أحد ما هو الهدف من العملية بشكل واضح. هل هو إسقاط النظام في كييف وتغييره بنظام صديق؟ أم تأديب زيلينسكي لأنه يفكر بالانضمام لحلف الناتو، أم حماية السكان الروس في مناطق التماس، خاصة إقليم دونباس؟ بدأ الهجوم على المدن الرئيسية، خاصة كييف وما لبث أن تغير مسار الهجمات لتشمل المناطق القريبة من روسيا وتعزيز الوجود الروسي في منطقة القرم. ثم تغير منحى العملية العسكرية بعد إجراء الاستفتاء في أربع مناطق بين 23 و27 سبتمبر الماضي محاذية لروسيا هي: لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا وخيرسون وإعلان ضمها للبلد الأم. ولكن تحت وابل الهجمات المرتدة قررت روسيا الانسحاب من ضفة نهر دنيبر اليمنى ومن خيرسون، وبدأت تغيرات كبرى على الأرض بين 14 و18 تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث استطاعت القوات الأوكرانية تحرير إقليم نيكولايف بكامله وعدة قرى من ضفة نهر دنيبر اليسرى. وبدأت القوات الروسية تتراجع بعمق 15-20 كم من مواقعها الأساسية باتجاه شبه جزيرة القرم. وقد أعادت السلطات الأوكرانية الحياة لمدينة خيرسون، بما في ذلك الاتصالات والبريد وأعيد دفع المعاشات التقاعدية وتشغيل الهواتف المحمولة والإنترنت ووصل يوم 18 نوفمبر أول قطار إلى خيرسون قادما من كييف.
بدأ بوتين يدعو الآن زيلينسكي للمفاوضات، خاصة بعد إطلاق 100 صاروخ تأديبي يوم 15 نوفمبر بعد احتفالات الأوكرانيين بتحرير خيرسون، استهدفت أساسا محطات الطاقة، خاصة منشآت الغاز. ويبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن التقط إشارة الكرملين وتقبل فكرة المفاوضات، إلا أن زيلينسكي ودول الاتحاد الأوروبي أعلنوا عن مواقف متشددة، مؤكدين استنزاف القوات الروسية في حرب طويلة حتى يتم تحرير الأراضي الأوكرانية كلها. لا شك بأن تقديرات بوتين لشن هذه الحرب لم تكن دقيقة، خاصة حجم إصرار دول الناتو ألا يمنحوه نصرا سريعا، بل العمل على جره إلى حرب استنزاف طويلة تشل قدراته العسكرية والاقتصادية في ظل رزمة عقوبات غير مسبوقة. كما أن تقديرات بوتين لقواته العسكرية النظامية يبدو أنها أيضا غير دقيقة، كما بدا واضحا في الدعوة إلى نوع من التجنيد الجزئي من جهة، والاستعانة بقدرات إيران في سلاح المسيّرات والصواريخ من جهة أخرى. كما اضطر أن يسحب بوتين جزءا من قواته في سوريا، ويعين قائدا جديدا للعملية هو قائد القوات في سوريا الجنرال سيرغي سوروفيكين. كذلك لا نعرف مدى تقدير بوتين لمستوى رد فعل المجتمع الدولي الذي، بعد الفيتو الروسي في مجلس الأمن أكثر من مرة، استخدم الجمعية العامة في دورة استثنائية طارئة لإدانة الغزو الروسي، واعتبار المناطق المضمومة من أوكرانيا عبر الاستفتاء باطلا وغير شرعي. ولم تجد روسيا من يقف معها إلا بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وإريتريا. كما اعتمدت الجمعية العامة مؤخرا قرارا خطيرا يدعو لتشكيل آلية لحصر الخسائر وتقدير حجم التعويضات المطلوبة. أضف إلى ذلك ما تعرضت له روسيا من إهانة بطردها من مجلس حقوق الإنسان، ثم تشكيل فريق متكامل من المحققين تابعين للمحكمة الجنائية الدولية لتوثيق ما ارتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
العبرة ليست في الخطابات الإعلامية في مثل هذه الحالات، فلا الاحتفالات بانتصارات «أم المعارك» في العراق، ولا بمعركة الإطاحة بالهيمنة الأمريكية، وهو ما نتمناه. فالخوف أن تتورط روسيا في معركة طويلة تتطيح بالاتحاد الروسي كما أطاحت الحرب في أفغانستان (1979-1989) بالاتحاد السوفييتي سابقا. يذكرني هذا بقول الشاعر:
ضلال الرئيس المقتدى بفعاله ضلال ألوف لا ضلالة واحد.
وسوم: العدد 1008