سوريا الأسد والسقوط في هاوية بلا قاع
طوال السنوات السابقة قيل دائما عن الأزمة الاقتصادية والمعاشية في مناطق سيطرة النظام بأنها بلغت مستويات غير مسبوقة، وبدا كأن العبارة هذه فقدت معناها، لكنها كانت دائما تعكس أوضاعا حقيقية. فالأزمة المتجددة المتفاقمة هي دائما غير مسبوقة بالقياس إلى ما سبقها، ثم تتحرك الأوضاع هبوطا باطراد لتصل دركات جديدة غير مسبوقة بدورها وهكذا…
ما يصلنا من حشرجات الداخل السوري، وبخاصة في مناطق سيطرة النظام، مرعب حقا. فما معنى أن تعطل دوائر «الدولة» بسبب فقدان الوقود والشلل في خطوط النقل الناتج عن ذلك؟ ومثلها مدارس في العاصمة دمشق وغيرها من المدن؟ وما معنى عدم قدرة «الدولة» على استيراد الوقود وغيره من السلع الأساسية بسبب خلو المصرف المركزي من القطع الأجنبي؟ وما معنى الشلل الذي يضرب القطاعات الإنتاجية بما في ذلك المخابز؟ وما معنى هروب ما تبقى من رؤوس أموال خاصة نجت من «سلبطة» أمراء الحرب وأجهزة المخابرات وأذرع العائلة الحاكمة إلى الخارج؟
يظهر ممثل في مقطع فيديو قصير يرجو فيه و«يترجى» من يناديه بـ«السيد الرئيس» لإيجاد حل لأوضاع «لم تعد قابلة للتحمل» على حد تعبيره.
«وحدك تملك القدرة على الحل» يقول وضاح حلوم بصوت متهدج وأداء مأساوي، ولا نعرف ما الذي يأمله من «رئيس» سبق وأعلن منذ سنواته الأولى في الحكم أنه «لا يملك عصا سحرية» يحل بها كل المشكلات. لقد قال ذلك ولم يكن قد مضى على وراثته «السحرية» لمنصب الرئاسة بعد موت أبيه إلا سنة أو أكثر قليلا، وكان الاستقرار سائدا وربيع دمشق تم القضاء عليه.
كان في ذلك الوقت يملك عصا سحرية فعلا يستطيع بها أن يغير مجرى تاريخ سوريا، لكنه استخدمها في الحفاظ على أسس النظام الدكتاتوري الفاسد الذي ورثه من أبيه وفي قمع معارضة ديموقراطية بالكاد تنفست قليلا في الأشهر الأولى من عهده، وفي ابتلاع الاقتصاد السوري من خلال ابن خالته رامي مخلوف وآخرين. أما اليوم فكلمة حق يجب أن تقال: «سيده الرئيس» لا يملك الآن لا عصا سحرية ولا حتى زمام أمره الذي سلمه لروسيا وإيران، فكيف له أن يجد حلا لأزمات هي نتاج طبيعي لخياراته الأولى في مواجهة مطالب السوريين في الحرية والكرامة بحرب مفتوحة مستخدما كل الأسلحة التي في حوزته بما فيها السلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة. وحين فشل في القضاء على الثورة، على رغم كل المجازر التي ارتكبها، استعان بميليشيات تابعة لإيران، ثم بالجيش الروسي.
والنتيجة هي انقسام سوريا إلى مناطق محتلة منفصلة بعضها عن بعض، وقواعد عسكرية روسية في كل مكان. والنتيجة هي شلل شبه كامل في الاقتصاد وتدهور قيمة العملة المحلية في هاوية بلا قاع، بالتوازي مع تدهور أحوال الناس المعاشية في الهاوية نفسها إلى درجة أن 90٪ من الناس باتوا تحت خط الجوع أي غير قادرين على تأمين المواد الغذائية، ناهيكم من الخدمات الأساسية الأخرى كالصحة والتعليم والسكن وغيرها من أساسيات الحياة.
هل يؤدي ذلك، أي بلوغ أوضاع الناس الحياتية درجة «لا تطاق» على حد تعبير الممثل المشار إليه أعلاه، هل يؤدي إلى «ثورة جياع» تطيح بالنظام؟ لعل هذا ما يأمله ويتوقعه من أطلقوا دعوات للإضراب العام بالتزامن مع استمرار تمرد الأهالي في مدينة السويداء. وكأنهم لا يعرفون أن ثورة 2011 التي تمكن النظام من القضاء عليها شملت معظم المدن وشارك فيها ملايين السوريين لا يمكنها أن تتكرر بمجرد أن الحياة ما عادت قابلة للاحتمال. فالنظام العاجز عن إدارة الشؤون العادية كتأمين مستلزمات الحياة والخدمات الأساسية ما زال قادرا على قمع أي تمرد اجتماعي بداعي الجوع أو غيره من الدوافع. فجوهر النظام هو استعباد السوريين والسيطرة على حياتهم وقتلهم إذا اقتضت الضرورة. كل شيء قابل للتغير لدى النظام إلا هذا الجوهر الثابت وإلا لكان استجاب لمشاريع حلول سياسية عربية ودولية استهدفت بقاءه مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة. حتى مقاربة «خطوة مقابل خطوة» التي طرحها الملك الأردني ثم تبناها ممثل الأمم المتحدة بيدرسون، رفضها بصلف لأنه لا يستطيع تغيير جوهره. كثيرة هي أوضاع بالغة القتامة مرت بها شعوب ودول في التاريخ، فكان المعنيون ينتظرون ضوءا في نهاية النفق المظلم، وذلك لأن لا شيء يبقى في حالة جمود، فيتحرك القطار قدما في الظلام إلى أن يظهر الضوء في آخر النفق.
في حالة سوريا الأسد أيضا لا شيء يبقى ساكنا بلا حراك، لكن الفارق هو أن سوريا بنظامها وسكانها ليسوا في نفق مظلم لا بد أن ينتهي مهما بلغ طوله، بل بهاوية مظلمة لا قاع لها، سقوطا بلا نهاية، وإذا ظهر القاع أخيرا فسوف ترتطم به سوريا وتتحطم.
هناك من يشبّهون النظام بثمرة متعفنة ستسقط بذاتها لأن أحدا لم يقتلعها، لكن هذا النظام ليس ثمرة، بل هو العفن بذاته وقد سمم سوريا طوال ما يزيد عن نصف قرن من تاريخها، ولن يسقط إلا بعد سقوط سوريا لا قبل ذلك.
وسوم: العدد 1011