كل محظور مرغوب ، وفي زمن سهولة وسرعة وتنوع وسائل نقل الأخبار والصور ؛ تكاثرت المواقف الشاذة المنكرة كثرة واسعة تفوق متابعتها أحيانا متابعة الأخبار الطيبة والهامة الرصينة . وصار سهلا على كل مريض نفسيا وذهنيا ومزدرى اجتماعيا أن يفعل فعلا غريبا فاضحا يجذب إليه اهتماما عالميا واسعا . ووجد بعض هؤلاء المرضى من الغربيين في حرق القرآن الكريم أوتدنيسه أو تمزيقه وسيلة مثلى لكسب شهرة فاسقة قبيحة في رأي الأسوياء العقلاء والبسطاء من كل البشر إلا أنها في قناعتهم هدف كبير ، وكلما كثرت إدانتهم واستنكار جريمتهم تضاعف رضاهم وسروا بما تخيل لهم نفوسهم المشوهة وعقولهم القاصرة أنه إنجاز عظيم ، وقلدهم آخرون من صنفهم طمعا ورغبة في ذلك الإنجاز الوهمي الوضيع . ثار المسلمون واحتجوا وشاركهم في ثورتهم سواهم من عقلاء العالم وبَرَرَته ؛ لإحراق راسموس بالودان الدنمركي زعيم " الطريق المتشدد نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في استوكهولم عاصمة السويد ، ولأن روسيا أدانت رسميا وشعبيا جريمته هدد بحرق نسخة أمام السفارة الروسية في نفس العاصمة . واقتدى به في جريمته وسفاهته إدوين واجنسفيلد زعيم جماعة "بيجيدا المتشدة " في هولندا ، فأحرق نسخة من القرآن الكريم بغد تمزيقها وتدنيسها . وهذه الفئة من المرضى الشواذ التي تعبر عن مرضها وشذوذها بحرق القرآن الحكيم لا تختلف في جوهرها عن سائر أنواع المرضى والشواذ الذين يعبرون عن حالهم المتردية بأساليب أخرى ، منها القتل والانتحار والمثلية . وفي رأينا أن تجاهل حارقي القرآن أنجع وسيلة لوقف تكاثرهم ودحرهم ، ولنعِ أنهم لن يضروا القرآن والإسلام ضررا يوازن حبة رمل . القرآن محفوظ باقٍ حتى يرفع يرث الله _ جل قدره _ الأرض ومن عليها . " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ( الحجر _ الآية 9 ) . وفي القرن التاسع عشر رفع دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا نسخة من القرآن الكريم في مجلس وزرائه ، وقال : " لن نغلبهم إلا إذا قضينا على هذا ! " ، فصاح وزير مقترحا : " فلنحرقه ! " ، فسخر منه دزرائيلي : " ليس هذا ما قصدته يا أحمق ! " . في باله أن القضاء على القرآن للتغلب على العرب والمسلمين له وسيلة أخرى فعالة ، هي إبعاد المسلمين عنه بتشكيكهم في قيمته وفي قدسيته كتابا منزلا ، وهو ما عمل المستشرقون على تنفيذه في دراساتهم وآرائهم ، فزعموا أن سوره خليط من التوراة والإنجيل ألفه الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ، وقرأت في هوامش ترجمة الإنجليزي جورج سيل لمعاني القرآن الكريم شيئا من ذلك الزعم . السفهاء الحمقى الذين يحرقون القرآن هم من صنف عقلية الوزير البريطاني الذي سخر دزرائيلي من اقتراحه الساذج للقضاء على القرآن سبيلا للتغلب على العرب والمسلمين . عمل المسلمين في كل حياتهم وفق كتابهم عبادات ومعاملات وأخلاقا هو وسيلتهم الصحيحة الفعالة للحفاظ عليه وحمايته . ويكون هذا في الأسرة والمدرسة والجامعة في كل التخصصات ، والإعلام وكل المؤسسات العلمية والثقافية . كيف يخلو كتابا اللغة العربية للثانوية العامة في مصر وسوريا مثلا من أي نص قرآني ؟ ! وتحفظا ودقة أقول إنني نظرت في كتاب القسم العلمي السوري ، ولم أنظر في كتاب القسم الأدبي ، ولا أستبعد أن يكون مثل كتاب القسم العلمي ، ومن محاسن المنهج الفلسطيني أنه يولي القرآنيات عناية كبيرة . وكثير من وجوه الضعف المفزع الذي أصاب لغتنا ، وكل الحياة التعليمية منبعه الابتعاد عن القرآن حفظا وفهما وتمثلا لأساليبه المحكمة الصياغة ، العميقة المعاني ، البعيدة الدلالات البلاغية ، النضرة الرائقة الألفاظ . وكل كاتب عربي أيا كان لون كتابته يتميز أسلوبه بالقوة والجزالة والنصاعة وسلاسة الانسياب وأناقة التناسق وموسيقيته إن حفظ القرآن في صغره . نرى هذه الميزات والسمات جلية ساطعة في أسلوب طه حسين وسواه من الكتاب العرب . ولم تقتصر الاستفادة من أسلوب القرآن على الكتاب العرب المسلمين ، ونال أشقاؤهم من الكتاب المسيحيين حظهم منها ، وبانت واضحة في شعر إيليا أبي ماضي الذي يصنف نقديا أحسن شعراء المهجر لغة وأسلوبا . وعودة إلى تشكيك بعض المستشرقين في قيمة القرآن وقدسيته كتابا منزلا خدمة لغايات سياسية استعمارية ؛ ساير كتاب عرب هذا التشكيك ، ومنهم حديثا نصر أبو زيد الذي يذهب إلى أن القرآن منتَج ( اسم مفعول ) ثقافي ، أي من وضع وصياغة بشر وبيئة ثقافية ، ويرد عليه الناقد السوري منذر عياشي الرد الصحيح ، فيقول إنه منتِج ثقافي ( اسم فاعل ) ، وهذا هو الحق الذي لا مراء فيه إلا لدى أعداء الإسلام من الغربيين ومن سار في طريقهم من الكتاب العرب والمسلمين دون مبرر علمي لهذا السير بحسبانهم أقدر من هؤلاء الأعداء على فهم القرآن والثقافة العربية الإسلامية ، والمتوقع ألا يضمروا لأمتهم أي نزوع عدواني يشابهون فيه هؤلاء الأعداء . وتوضيحا لكون القرآن الكريم منتِجا للثقافة وليس إنتاجا لها نسأل : هل كانت ستظهر حضارة عربية إسلامية بكل علومها وأفكارها وفنونها وآدابها ومعمارها ؟! ونخص اللغة العربية ، فنقول : علومها الأحد عشر ما خلا علم العروض ما وجدت إلا في ظلال القرآن لقراءته وتفسير آياته تفسيرا صحيحا يؤدي إلى العمل به عملا صحيحا ، ويتصدر النحو والبلاغة سائر العلوم في هذه المهمة بوصفهما منتجا قرآنيا وظيفيا ، وإن كان ظهور النحو له سبب آخر هو تعليم العربية لأهل البلاد المفتوحة وللعرب الذين ابتعدت بهم جغرافيا الفتوح عن ينابيع لغتهم في جزيرتهم . كانت العربية عند أهلها ميراثا وسليقة ، فصارت بعد الفتوح علما يدرس . ومجمل الرأي : تجاهل حارقي القرآن أنجع وسيلة لدحرهم . إنهم من طائفة السفهاء الذين جعل الله _ سبحانه _ تجاهلهم من صفات المؤمنين ، ومن الذين قال فيهم أبو العلاء المعري : " لو كل كلب عوى ألقمته حجرا = لأصبح الصخر مثقالا بدينار " ، ويجب أن يكون هذا التجاهل مصحوبا بالعمل وفق كتابنا العظيم في كل نواحي حياتنا العملية والأخلاقية ، وبجعل تعليمه محوريا في هذه الحياة .