الذئب في الشِّعر العربي ( المُثُل والجَماليَّات )
-1-
في تلك البيئة التي نشأ فيها الشاعر العَرَبي، وتفتَّقت على مخايلها قريحته، كانت الثروة الحيوانيَّة مبثوثة في منازل الحيِّ، كما هي في رحاب الصحراء، أُفقًا وقاعًا. فما انفكَّ الإنسان يستعين بها على قضاء حوائجه، ويستفيد منها في تأمين بعض ضروريَّاته، أو يصطرع معها من أجل البقاء. ومن ذلك كلِّه نشأت علاقة وطيدة بين العَرَبيِّ والحيوان، اجتازت الأُطر المادِّيَّة إلى أبعاد روحيَّة، لا تندُّ عنها العَين عند استقراء الأشعار العَرَبيَّة القديمة. وما دام الأمر كذلك، فإنَّ جَماليَّات تصوير الحيوان هي أوسع من أن يَأْطرها مبحثٌ، كهذا الذي نحن بصدده، غير أنَّه سيصطفي منها نماذج بارزة تُلقي الضوء على أنحاء من جَماليَّات تصوير الحيوان في الشِّعر العَرَبي القديم.
وكان يمكن في هذا البحث أنْ تنقسم دراسة الجَماليَّات إلى فرعَين، أحدهما يعالج جانب الهيئة الخارجيَّة من الصُّورة، والآخَر يعالج الأبعاد الروحيَّة في الصُّورة، إلَّا أنَّه اتَّضح أنَّ الفصل بين هذين الجزأين سيُفسِد لوحات فنِّيـَّة متكاملة، حرص الشاعر على تعاضد جزأيها في تعبيرٍ فنِّيٍّ واحد؛ فكان- إذ تبدو صورته لأوَّل وهلة وصفًا شكليًّا- يُضمِّن أشياء غير قليلة من المعاني والرُّؤى النفسيَّة والخُلقيَّة، تلفتنا، بالطبع، إلى مُثله الروحيَّة، هو نفسه، وجَماليَّاته.
-2-
وعند استقراء صُوَر (الذِّئب) في نماذج من الشِّعر العَرَبي، نلحظ أنَّ من أهم ما استأثر بعناية الشاعر: اللَّون، والحركة. فاللَّون: أَطْلَس، عند (الفرزدق)(1) و(البُحتري)(2)، مثلًا. والأَطْلَس: الأغبر إلى سواد، والأَطْلَس: اللِّصُّ يُشبَّه بالذِّئب، والأَطْلَس من الذِّئاب: الذي تساقط شَعره، وهو أخبث ما يكون، والطِّلْس: الذِّئب الأَمْعَط.(3) ولئن كان ذلك هو لَون الذِّئب في الواقع، فإنَّ لاختيار ذاك الوصف دون سِواه لدَى الشاعرَين معنًى يتكشَّف من تأمُّل دلالات "الأَطْلَس" في العَرَبيَّة وظِلالها. ففي لفظ "الأَطْلَس" معنى الغموض، كما أنَّ فيه إيحاءً بالرهبة من وحشٍ خبيثٍ مخاتلٍ غادر، تعبِّر تفاصيل صورته الخارجيَّة عن طبعه وخُلقه، وتنسجم ملامحه الشَّكليَّة مع ما ينطوي عليه من غدرٍ وتربُّص. وتلك هي صورة الذِّئب عند العَرَبي، سواء أَوَظَّفها في مدحٍ أم في ذمٍّ، وهو لا يكاد يُخفي إعجابه بها في كلا الحالَين.
وقد يصفونه بأنَّه "أَغْبَس". حتى قيل: كلُّ ذئبٍ أَغْبَس. والغَبَس والغُبْسَة: لون الرماد، وهو بياض في كُدْرة، وهو الغُبرة. وقيل: الأَغْبَس من الذِّئاب الخفيف الحريص، وأصله من اللَّون. (4) قال (لَبيد)(5):
لـِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ لا يُمَنُّ طَعَامُها
وما قيل في "الأَطْلَس" يقال في "الأَغْبس". ويمكن أنْ نَلمح في هذين اللَّفظَين كذلك إيحاءً صوتيًّا خاصًّا، يكمل الصُّورة التي أحبَّ الشاعر أن يضفيها على هذا الحيوان.
-3-
أمَّا الحركة، فـ(الذِّئب) موصوف بالخِفَّة والمخاتلة. وقد افتنَّ الشُّعراء في تصوير حركته تلك، التي أدَّاهم الإعجاب بها إلى أنْ يصفوا بها (الخيل). فقال (امرؤ القيس)(6)، مثلًا، في بيته المشهور، يصف فَرَسَه:
لَهُ أَيْطَلَا ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامَةٍ وإِرْخَاءُ سِرْحَانٍ وتَقْرِيْبُ تَتْفُلِ
والسِّرحان: الذِّئب هاهنا. وإرخاؤه: شِدَّة عَدْوِه، قيل هو فوق التَّقْريب، وقيل: هو مأخوذٌ من الرِّيح الرُّخاء، وهي السريعة في لِيْن. (7)
[للحديث بقيَّة].
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1983)، ديوان الفرزدق، بعناية: إيليا الحاوي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة)، 2: 590.
(2) (2007)، حماسة البُحتري، تحقيق: محمَّد إبراهيم حور وأحمد محمَّد عبيد، (أبو ظبي: المجمع الثقافي)، 743.
(3) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (طلس). والذِّئب الأمعط: قليل الشَّعر، وقيل: الطويل. (يُنظَر: م.ن، (معط)). وما زالت الكلمة مستعملة في دارجة (الجزيرة العَرَبيَّة).
(4) يُنظَر: م.ن، (غبس).
(5) (1958)، ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 308.
(6) (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 21.
(7) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (سرح)، (رخا).
وسوم: العدد 1028