قبور تنتظر ومقاومون كالأشباح و”لا شيء يخسرونه”.. أهلاً بكم في مخيم جنين للاجئين

جدعون ليفي وأليكس ليباك

ثلاثة قبور محفورة تنتظر في مقبرة مخيم جنين للاجئين لقتلى نار الجيش الإسرائيلي. هنا يحفرون القبور مقدماً. وللأسف الشديد، لا تبقى مفتوحة لفترة طويلة. نحو 50 مقاتلاً مسلحاً وغيرهم قتلوا هنا في السنة الأخيرة، والمخيم اليوم في أصعب أوقاته وأعنفها منذ الانتفاضة الثانية. مقبرة المخيم تعج بقبور الشهداء، هذا هو الجزء الثالث الجديد في المقبرة، بل إنه امتلأ هو الآخر.

في نهاية الأسبوع الماضي، صباح اليوم الأول لعيد الفطر، عجت المقبرة بآلاف الأشخاص وأبناء العائلات الثكلى في المخيم الأكثر قتالاً في “المناطق” [الضفة الغربية]، وأصدقاء القتلى. من يبحث عن نقطة تشابه بيننا وبينهم فهذه هي: في العيد الماضي كانت هناك عائلات ثكلى لم تذهب إلى القبور بسبب حضور سياسيين من السلطة الفلسطينية الذين لا يتجرأون في الأيام العادية على دخول المخيم.

أبناء العائلات الثكلى زاروا القبور قبل العيد بيوم أو بعده. وفي اليوم الأخير للعيد، الإثنين الماضي، وقفت أم أخرى ثاكلة على قبر ابنها تروي الأزهار على القبر الجديد. الآباء الثكالى الذين تحدثنا معهم تحدثوا بخليط من الفخر والألم، مثلما عندنا.

المشهد يحبس الأنفاس؛ ثمة صور كبيرة ملونة بألوان صارخة للشهداء الأخيرين من المخيم علقت على جدار المحكمة، وصور أخرى تصرخ من القبور الجديدة. قبور المقاتلين متشابهة، وتم الاعتناء بها أكثر من القبور الأخرى. أصص ورود على كل قبر مثلما في مقابرنا العسكرية، والقبور الثلاثة المفتوحة تضيف القوة لهذا الموقف الصعب. في الشارع، وراء الزاوية، تلوح صور ضخمة للصحافية شيرين أبو عاقلة، صخرة وضعت في المكان الذي قتلت فيه، كما يبدو، من قبل جنود الجيش الإسرائيلي. أكوام من القمامة تحترق ويتصاعد منها الدخان الأبيض حول مكان سقوطها. هذه المقبرة الموجودة على مدخل المخيم تحكي قصص الموتى. عندما ندخل المخيم نكتشف الصورة المدهشة للحياة.

من استضافونا خافوا في البداية من أخذنا إلى المقبرة، إلى أن وافقوا على إلقاء نظرة خاطفة من داخل السيارة، وأخيراً سمحوا لنا بالنزول من السيارة، ولكنهم طلبوا منا العودة بسرعة والاختباء وراء النوافذ السوداء لسيارة جيب التيوتا المسروقة، التي أزيلت عنها لوحة الأرقام، وسافرت بسرعة في أزقة المخيم. خُبئت مخازن الذخيرة في جيب المقعد الخلفي. كان السائق يحمل رشاش ام 16. أهلاً وسهلاً بالقادمين إلى المخيم. لم نشعر بأننا مهددون بهذا الشكل. ولم يشعر مستضيفونا بهذا القدر من الخوف على مصيرنا. بعد بضع ثوان من اجتياز سيارتنا التي تحمل اللوحة الإسرائيلية لمدخل المخيم، انتشر في مجموعات الواتساب والفيسبوك المحلية نبأ عن وجود إسرائيليين في المخيم.

الأزقة مزينة بصور الشهداء، أكثر مما كان الحال في أيام الاقتحام الكبرى. لا يوجد طفل في المخيم إلا ومعه بندقية لعبة. شاهدنا أيضاً طفلة تحمل بندقية. ولكن الجديد حقاً في الأشهر الأخيرة هو الحواجز التي استهدفت وقف أي اقتحام للجيش. في كل التقاء مع زقاق، وبالطبع على جميع مداخل المخيم باستثناء مدخل واحد، توجد حواجز من الحديد على جانبي الشوارع. في الساعة الحادية عشرة ليلاً هناك من يأتون ويضعونها على عرض الزقاق. هذه الحواجز التي يرفعها الجيش أحياناً بواسطة الجرافات وأحياناً يفجرها، تعيق دخول القوات وتعطي الوقت للمسلحين في المخيم كي ينظموا أنفسهم. وكاميرات الحماية التي تظهر الآن في كل زاوية تعدّ إضافة جديدة لزينة المخيم الذي تحول إلى حصن. في حالة اقتحام قريب، يشغّل المراقبون على مداخل المخيم صافرة إنذار يسمعها المخيم كله. لا توجد ليلة واحدة هادئة هنا. أحياناً يطلق الجنود النار على مولدات الكهرباء، وعندها تنقطع الكهرباء ويخيم الظلام طوال الليل.

البيوت في المخيم بنيت على سفح جبل، وعلى قمته بضعة بيوت جديدة أكبر نسبياً. عاش هناك في السابق جوليانو مار، الذي قتل هو وأبناء عائلته. وزكريا الزبيدي أيضاً وزوجته وأولاده، وإلى جانبهم بعض أبناء عائلته. هذه صورة الوضع الحديث للعائلة. قتل أخوان من الأخوة الستة. ثلاثة في السجن، جميعهم من ذوي مدد الاعتقال الطويل. واحد فقط، وهو عبد، حر بعد مكوثه أيضاً في السجن ست سنوات. الأم سميرة قتلت في اقتحام 2002، والأب محمد توفي بمرض السرطان في 1993، بعد أن منع في مرحلة معينة من الوصول إلى مستشفى هداسا لتلقي العلاج، حينها كان عمره 45 سنة.

عندما توفي الأب كان اثنان من أولاده في السجن، زكريا وعبد، ولم يسمح لهما بالمشاركة في جنازة والدهم. جمال الزبيدي، عم الأخوة الذي قام بتربيتهم، يتألم منذ ذلك الحين، وقد فقد في السنة الماضية ابنه نعيم وصهره داود. صور القتلى الذين عرفناهم منذ الطفولة معلقة في صالون جمال، الشخص النبيل والمثير للانطباع من مخيم جنين، أيوب المحلي.

السفر السريع في أزقة المخيم يظهر صورة أصعب من ذي قبل. شيء ما ثقيل ومهدد يحدث في هذا المخيم المكتظ الذي هو غير موجود في مخيمات اللاجئين الأخرى. مسلحون يمرون مثل الظل في الشوارع. سيارة تندر الكتيبة، تتجول مع شبكة تمويه عسكرية موضوعة على غرفة التحميل فيها، تحتها أحياناً تختفي الذخيرة، وأحياناً مقاتلون، وأحياناً حواجز تنشرها السيارة في المخيم حسب الحاجة. الكتيبة هي اتحاد لكل القوات المقاتلة في المخيم. مقاتلو فتح وحماس والجهاد الإسلامي، كتائب شهداء الأقصى، كتائب عز الدين القسام وكتائب القدس، موحدة هنا في إطار الكتائب وتعمل معاً. في الجنازات وفي أيام الذكرى يُشاهد مئات المسلحين، الأمر الذي يشير إلى قوتهم وكمية السلاح الذي بحوزتهم.

الاقتحام الأخير لمدينة جنين كان قبل أسبوع من مجيئنا إلى المخيم. القتيل الأخير فيه كان قبل أربعين يوماً. اليوم الجمعة ستقام ذكرى نضال حازم، ابن عم رعد حازم، منفذ عملية شارع ديزنغوف في شهر رمضان الماضي. “قتل” نضال في شارع أبو بكر في مدينة جنين هو وصديقه وطفل ابن 14 أثناء اقتحام الجيش للمدينة. وحسب المسلحين في المخيم، فإنه في كل لحظة يوجد مستعربون يهود في المدينة. لذلك، الشك في المخيم كبير جداً. حسب أقوال رؤسائه، فإنهم لا يعطون الثقة لأي مراسل إسرائيلي بعد أن خيبوا جميعهم أملهم عندما تبنوا الرواية الإسرائيلية عما يحدث في المخيم؛ هناك أيضاً شك كبير في مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية.

المسلحون والمطلوبون يختفون هنا أقل مما كان في السابق، والخوف في المخيم أقل من أي وقت سابق. ما سيحدث ليحدث، قال المسلحون. لذلك فإن أيديهم على الزناد أخف من أي وقت سابق. هنا لن يترددوا في إطلاق النار في أي اتجاه يشكون بوجود جنود فيه، لم يعد هناك شيء يخسرونه. إذا كانت الحياة رخيصة هنا، فالموت أرخص. وتأييد الجمهور للمسلحين أكبر من أي وقت سابق. إذا كان هناك من يتحفظون من أفعالهم سابقاً، فالمخيم الآن يقف وراءهم وقفة رجل واحد. لم يعد هناك شيء يخسرونه.

أمام المستشفى الحكومي في المدينة على مدخل المخيم، ما زال شامخاً تمثال الحصان الذي وضعه الفنان الألماني توماس كلبر، والذي صنعه من قطع السيارات وسيارات الإسعاف التي دمرها الجيش الإسرائيلي في عملية “السور الواقي”. الآن الحصان محاط بصور الشهداء من السنة الأخيرة بعد عشرين سنة على وضعه. أحياناً يبدو أن الوقت في المخيم يرفض التقدم، وأحياناً يبدو أن الوقت لا يتوقف ولو للحظة. هذا الأسبوع، ما زال مفعول التوقيت الشتوي سارياً. وفي الغد سينتقل المخيم إلى التوقيت الصيفي.

وسوم: العدد 1030