موت الضمائر سوء المصائر وخراب الأمصار

الضمير أو الضمر ـ بتسكين الميم ـ لغة كل ما خفي ، وله عدة دلالات اصطلاحية تختلف حسب اختلاف المعتقدات والثقافات، و منها أنه عملية معرفية مثيرة للارتباطات الشعورية والعقلانية استنادا إلى ما يؤمن به الفرد من قيم  ، وهو ما يجعله يشعر بالندم والذنب  على ما يصدر عنه من سلوك يتعارض مع القيم التي يؤمن بها.

والضمير من منطلق الاعتقاد الإسلامي يعرفه حديث نبوي شريف جاء فيه أن وابصة بن معبد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال له : " يا وابصة ، استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون " . ومعنى هذا الحديث حسب ما بينه أهل العلم أن المؤمن يستفتي قلبه فيما يعرض له من أحوال تستوجب أفعالا تكون إما برا أو إثما ، أما البر فيطمئن له قلب المؤمن ،لأنه موافق للشرع، وأما الإثم فيحوك فيه، أي يتحرك ،ويؤثر، ويلتبس عليه أمره بخصوص موافقته للشرع ، ويجب عليه الاحتراز منه وإن أفتاه غيره بأنه من البر . ولقد نبه أهل العلم إلى أنه إنما يستفتي قلبه من كان تقيا، ورعا، عالما بالشرع ، ومن كان دون ذلك، وجب عليه أن يستفتي أهل العلم، والورع ،والتقوى، لأنه قد يطمئن قلبه إلى ما هو إثم، فيظنه برا، كما أنه قد لا يطمئن قلبه إلى ما هو بر ، فيظنه إثما ، وذلك لجهله بالشرع.

وما يعنينا من هذا الحديث هو وجود ما يعتبر تعرفا للضمير من منطلق أو من خلفية إسلامية ،حيث يكون الضمير محكوما أو مضبوطا بالشرع ،لا أثر فيه لأهواء.

والمؤسف جدا أننا كمسلمين نمر بفترة تسود فيها  ظاهرة موت الضمائر ، وهو موت له تجليات في مختلف أحوالنا اليومية ، إذ لا يخلو ممن يقلدون مسؤوليات سواء كبرت أم صغرت من هذا الموت الضميري، ويكفي أن نسوق أمثلة على ذلك من واقعنا المعيش وهي الآتي :

ـ موت ضمائر الدعاة من علماء ومفكرين وخطباء ، حيث يتنكبون إنكار ما عظم من المنكرات خشية بطش من يرتكبونها ، ويشتغلون بإنكار ما دونها ، ويمضون على هذا النهج عن عمد وسبق إصرار فيضيعون بذلك أمانة من أخطر الأمانات وقد ندبوا أنفسهم للدعوة وهي تلزمهم بشرط ألا يخافوا في أدائها إلا الله عز وجل ، ولا يخافون معه لومة لائم .    

ـ موت ضمائر المعلمين، والمتعلمين، حيث يتواطأ الجميع  على الغش تلقينا  وتحصيلا ، وامتحانا ،هو إثم يحوك في القلوب ، ولا تطمئن له ، بل هي على يقين من كونه إثما ، ولكن أصحابها يميتون ضمائرهم ، ويتذرعون بذرائع واهية لتبرير غشهم ، وذريعة الممتحن ـ بكسر الحاء ـ تكون أحيانا تعاطفا في غير محله ، فتسول له نفسه اعتبار ذلك التعاطف، وهو إثم صارخ عملا إنسانيا فيه إسداء معروف للممتحن ـ بفتح الحاء ـ وهذا الآخير يظنه أيضا كذلك ، ويثني على من يغض الطرف عنه، وهو متلبس بالغش في الامتحان ، وهكذا يموت ضميرهما معا .

ـ موت ضمائر العمال ،والموظفين، والمستخدمين، والأجراء ... حيث  يصدر عنهم تقصير في واجباتهم ، إما في كيفية أدائها أو في الزمن المحدد لإنجازها ...إلى غير ذلك من أساليب التقصير، وهم على وعي تام به ، لكنهم يبحثون عن ذرائع لتبريره تبريرات واهية، منها على سبيل المثال ضآلة الأجور، أوغياب التحفيز، أو انعدام الظروف الملائمة ، والوسائل اللازمة ، أوسيادة التقصير بين شركاء العمل، أو الوظيفة، أو الخدمة ...إلى غير ذلك مما يبرر به إثم التقصير في الواجبات مع الاستفادة  من رواتب وأجور كاملة غير منقوصة قد تم قبولها.

ـ موت ضمائر التجار، والحرفيين ، والزراع ،ومربي المواشي ... حيث ينغمسون في الغش بكل أشكاله وأنواعه، فيخلط رديء أوفاسد البضائع مع جيدها  ، ورديء المصنوعات مع متقنها ، وتالف أو ساقط الزروع  مع  طيبها ، ومعيب المواشي مع سالمها ... وترفع أثمان ما بخس ، وينتقص الكيل ، ويخسر الميزان ، ويحتكر المتوفرمن السلع ،والبضائع...  لرفع أثمانه ... إلى غير ذلك من أنواع الغش والتدليس.

ـ موت ضمائر الأطباء ،الذين يحنثون في قسمهم الذي اقسموه بحضور شهود منهم ،ومن غيرهم يوم تخرجهم ، فيشهدون الزور حين يحررون شهادات كاذبة وهم يعلمون ،بل وهم مصرون على ذلك إصرارا  ، و يحيلون من يفحصون من مرضاهم على زملائه من أصحاب التحليلات، والكشوفات، والصيادلة ... واصفين لهم ما لا ضرورة ملحة إليه ، وذلك من أجل ابتزازهم  . وقد يصل الأمر ببعضهم إلى حد إجراء عمليات جراحية وهمية لا داعي إلى إجرائها أو دون استئصال ما يزعمون استئصاله  من أذى في الأبدان بحيث يبقرون البطون ثم يخيطونها مقابل مال مغلول... إلى غير ذلك من  السلوكات المشينة التي  يتسبب فيها موت الضمائر عند من يوثق بهم ، و يسلم لهم المرضى أجسادهم ،فيعبثون بها طمعا في المال على حساب كرامتهم الإنسانية .

ـ موت الضمائر من خلال سلوك مشين، تشترك فيه قاعدة عربضة من الناس ، ويتعلق الأمر بعدم احترام  قوانين السير والدوس عليها عن عمد، وسبق إصرار بذرائع واهية من أجل التمويه على استفحال الأنانية  المميتة للضمائر . ويمكن ملاحظة موتها  على سبيل المثال عند أضواء تنظيم المرور حيث يستخف عديمو الضمائر من دراجين وأصحاب عربات... بأصحاب الضمائر الحية ، فيستبيحون المرور الممنوع معرضين حياة غيرهم للخطر ، وأتفه ما يتذرعون به محاكاة اللاحق منهم بالسابق بحيث يصير عندهم الاقتداء بمن يخرق قوانين السي مبررا و أمرا مشروعا عملا بذريعة " الإمّعية " كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : " لا تكونوا إمّعة ، تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطّنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا " . وعديمو الضمائر المستخفون بقوانين السير لا يسيئون فقط إليها، بل يظلمون أيضا من يحترمونها ، ويعتدون على حقوقهم ، وأكثر من ذلك قد يهددون حياتهم بتهورهم .

ـ موت ضمائر من يوكل إليهم تطبيق القانون على اختلاف مراكزهم ومهامهم،  لكنهم يكلون بمكيالين في التطبيق، حيث يغلبون المحسوبية، والزبونية والقرابة والمصلحة الخاصة، وحتى المكسب الحرام  ... فيقعون بذلك في الظلم الصارخ عن عمد وسبق إصرار، بل  يشهد بذلك عليهم شهود عيان ، وقد يحدث به ممن استفادوا من كيلهم الظالم ،وبما اقترفوه من ظلم، وهم يعتبرونه مجاملة منهم، وامتيازا ميزهم عن غيرهم .

ـ موت ضمائر من يخربون الممتلكات العامة والخاصة عن عمد وسبق إصرار ، وهم يفاخرون بذلك ، ويسخرون ممن ينكر عليهم تخريبهم ، وربما نالوا منه عنفا أو شتما .

وكفى بهذه أمثلة على موت الضمائر وإلا  فهي كثيرة، لا تخلو من مجال من مجالات حياتنا  اليومية، وهو ما يجعل مصائرنا تسوء سوءا كبيرا مع مرور الزمن ، ويكون ذلك إيذانا بخراب الأمصار .

وإذا كان موضوع هذا المقال قد ركز على موت الضمائر ، فإن هذا لا يعني أن مجتمعنا يخلو من الضمائر الحية بل بالعكس إنها موجودة، وهي بمثابة صمام أمان يمنع حلول سوء المصائر ، وخراب الأمصار . 

وسوم: العدد 1035