بين المهزلة والمأساة هل يعيش لبنان مهزلة أم مأساة؟ وما هي الحدود التي تفصل بينهما؟
لو لم أكن مقيماً في بيروت، وسط الخراب المادي والروحي والأخلاقي الذي حوّل حياتنا إلى جحيم، لحدثتكم عن مسرحية هزلية تثير الضحك، جميع أبطالها يلبسون الأقنعة وعنوانها: «الكراسي المخلّعة»، وهي تدور في أروقة المجلس النيابي اللبناني وسط ضجيج إعلامي صاخب.
وفي المقابل، أنا كغيري من المقيمين وسط الخراب اللبناني، لا أستطيع أن أصف ما يجري بأنه مأساة. فرغم فداحة واقعنا، نلاحظ بأن الكاريكاتير يستولي على أصوات الممثلين، بحيث ينجحون في تحويل أكثر اللحظات المأسوية إلى مسخرة. وهل هناك ما هو أكثر مأساوية من الصراع بين الضمير والواجب؟ وهو صراع دفع النائب إبراهيم منيمنة إلى الإعلان بأنه تجرع السمّ كي ينتخب السيد جهاد أزعور رئيساً للجمهورية، في دورة انتخابية قطعها فقدان النصاب في نصفها. ومع فداحة هذا التصريح وطابعه التراجيدي، فإنه لم يثر موجة من التعاطف مع من أرتضى بأن يمثل دور الكومبارس في مسرحية تدور على أنقاض حلم اللبنانيين بالتغيير.
قبل أن نصل إلى السمّ الذي شربه بعض النواب، يجب أن لا ننزلق إلى الافتراض بأن اللعبة السياسية أفلتت من أيدي أبطالها، أو أننا أمام مسرح سياسي عبثي لا معنى له.
صحيح أننا أمام العبث، غير أنه عبث موجّه ومقنن؛ فهذا المسرح الذي يدور على خشبة مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت له وجهان:
الوجه الأول هو تبييض الطبقة الحاكمة، عبر محو ذاكرة الكارثة اللبنانية التي ابتدأت مع انهيار النظام المصرفي، ولم تنته مع انفجار مرفأ بيروت. فجأة ووسط ضجيج سياسي وإعلامي حول السيادة وحقوق الطوائف وحماية ظهر المقاومة، محيت الجريمة. انقلبت التحالفات رأساً على عقب، كأن لبنان عاد نصف قرن إلى الوراء.
هذه العودة إلى لغة الحرب الأهلية والفدرالية والتقسيم وإلى آخره… هي القناع الذي يخفي الحاضر خلف دخان كثيف من اللغو الكلامي. وظيفة هذه العودة هي فرض التسليم بالأمر الذي وقع على رؤوسنا. لم يعد السؤال حول تغيير نظام الفساد والمافيات أو حتى إصلاحه مطروحاً، صار على الناس أن تقتنع بأن اللعبة محصورة بين رئيس ممانع ورئيس يعمل في صندوق النقد الدولي، وفي الخيارين نهاية كل كلام عن المحاسبة ومحاكمة اللصوص واسترداد الأموال المنهوبة، والاقتصاص من مجرمي نيترات الأمونيوم.
الوجه الثاني هو تجديد نظام الحرب الأهلية الذي ساد في لبنان منذ تأسيس دولة لبنان الكبير. فهذا النظام يمتلك القدرة على تهميش الدولة، والتهديد الدائم بتدميرها.
لقد نجح نظام الطوائف عبر زواجه بالمافيات المالية في تدمير ما لم تستطع الحرب الأهلية الطويلة تدميره. فلبنان اليوم هو مجرد ركام وأطلال، يغطيها بريق مخادع.
هدف هذه اللعبة هو إعادة توزيع مكتسبات السلطة بين زعماء الطوائف والمافيات. فهذه الزعامات لا يردعها شيء، بعضها جعل لبنان رهينة إيرانية، وبعضها الآخر جعله رهينة سعودية. فلبنان الوطن لا مكان له في الحسابات الجدية، وهذا ما نشهده حالياً عبر خطابات متطرفة هدفها الوصول إلى لحظة المقايضة، لأن الحرب الأهلية الساخنة خارج حسابات الدول التي ترعى هذا الخراب اللبناني.
وجهان متكاملان نجحا في حجب المواطن اللبناني الذي يئن من الفقر والغلاء والعجز عن دفع أقساط المدارس.
في هذه اللعبة المعقدة ضاع ما أطلق عليه اسم «النواب التغييريين»، وهم مجموعة تتألف من اثني عشر نائباً فازوا بمقاعدهم بصفتهم ممثلين لانتفاضة 17 تشرين-أكتوبر.
ضاع التغييريون عندما ابتلعهم خطاب سيادي أجوف وفارغ من المعنى. النظام نجح في تصوير معركة الرئاسة وكأنها بين سياديين وممانعين. فتمحورت الحكاية حول حزب الله وسلاحه فقط. وبدلاً من تقديم رؤية جديدة للبنان تعالج مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، وتطرح مسألة سيادته على أرضه بصفتها جزءاً من بناء وطن ديمقراطي علماني، انجرّ أغلبية السيدات والسادة النواب إلى مناورة التقاطع حول اسم أزعور، وهم يعلمون أن عونيي جبران باسيل يناورون من أجل صفقة أفضل مع حزب الله، وأن القواتيين يتابعون الصراع الماروني- الماروني على الإمساك بالورقة المسيحية، وأن الثنائي الشيعي يلعب ورقة الهيمنة على نظام فاسد شكل خلال انتفاضة تشرين الميليشيا التي حمته من السقوط.
هنا يأتيك من يتفاصح ويقول إن الموقف الأزعوري كان ضرورياً كي يكون لانتفاضة 17 تشرين دور في اللعبة.
عن أي دور تتكلمون أيها الناس؟ فمن يبحث عن دور عليه أن يفهم قوانين اللعبة أولاً، ثم عليه أن يفاوض من أجل تحقيق بعض المكتسبات الملموسة.
اللعبة في جلسة 14 حزيران- يونيو كانت واضحة المعالم، إنها مجرد مناورة بالأصوات قبل الدخول في مفاوضات جديدة بين زعماء الطوائف والمافيات، عبر الدول الراعية، من أجل تقاسم السلطة.
هل هناك في هذا الملعب مكان لصوت معترض على النظام؟
قد تكون أجنحة نظام المافيا قد نجحت في إقفال الملعب، ولكن من قال إن علينا أن نلعب في ملعبهم؟
اللعبة بالنسبة لقوى التغيير أو لمن تبقى منها لها اسم واحد، هي مراكمة الاعتراض، والتمسك بالعدالة والمحاسبة، ومقاومة المافيات الإجرامية التي دمرت لبنان.
لذلك، لم يكن من الضروري شرب كأس السمّ الأزعوري، وخصوصاً أن مَن شرب لم يفاوض على مطالب ملموسة، بل جرفته حمى «سيادية»، فانضم إلى تقاطع يضم من يضم من قوى النظام، وبعضهم تسيّد العهد العوني المشؤوم الذي دمّر السيادة، وذهب عشية الانتخاب كي يبيعها في دمشق!
هناك إيقاعان لهزيمة اتنفاضة 17 تشرين-أكتوبر، إيقاع استسلامي يحول اليأس إلى وعود كاذبة، وإيقاع يقرأ الهزيمة بصفتها جزءاً من معركة طويلة من أجل الدفاع عن حق اللبنانيين في أن يكون لهم وطن.
هذا هو الخيار، أما سمّ النظام فليس خياراً.
وسوم: العدد 1037