الحَجُّ مَدْرَسةٌ تربويةٌ إيمانية 1 + 2

(1من4)

مَدخَل

لقد فرض اللهُ عزّ وجلّ الإسلامَ العظيم، لتحرير الإنسان من كل عبوديةٍ لغيره سبحانه وتعالى، ولتحرير الإنسانية من المظالم التي تقع بين أممها وأفرادها نتيجة الخروج عن المنهج الربانيّ العادل الصالح لكل زمانٍ ومكان.. وقد أصّل ديننا الحنيف هذا كله، عبر أصولٍ ثلاثةٍ تحدثنا عنها في مناسباتٍ سابقة، نذكرها هنا للبناء عليها:

1- الأصل الأول أو (الهدف) الذي ينبغي تحقيقه، لتحقيق العدل والسعادة والرخاء للإنسان، وهو: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. الذي يعني بإيجازٍ شديد: لا واضع لمنهج الحياة إلا الله، ولا مشرِّع لدستور الحياة وقوانينها إلا الله، فهو الإله والربّ الذي ينبغي على الإنسان أن يطيعَه ويعبدَه وينفّذَ أوامرَه ومنهجَه.. وإن لم يفعل الإنسان ذلك، فإنه سيحوّل نفسه إلى عبدٍ لغير الله عزّ وجلّ، الذي سيكون في هذه الحالة.. الربّ المزيّف الذي يضع للناس من عنده منهج الحياة ودستورها وقوانينها الملأى بالأخطاء، وبالتالي الملأى بالظلم، فيحلّ الشقاء والظلم والتعاسة على الأمة المسلمة والمجتمع المسلم.. بدل السعادة والرخاء والعدل.

2- الأصل الثاني أو (وسيلة تحقيق الهدف)، وهو: الجهاد في سبيل الله، بكل أنواعه وأقسامه.. التي تمتدّ من الجهاد بالقلب.. إلى الجهاد باليد والنفس.. وما بينهما من جهاد الكلمة والقلم وأساليب الدعوة المختلفة إلى الله ودينه القويم ومنهجه الصحيح الوحيد الشامل.

3- الأصل الثالث أو (المحرّك الدائم) أو (اليوم الآخر)، الذي يُحرِّك الإنسان المؤمن للسعي باستمرارٍ إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض.. وهو اليوم الذي فيه يُكافَأ مَن يؤدي الأمانةَ على خير وجه، ويُعاقَبُ الذي يُقصّر في تأديتها ويتقاعس عن تحرير نفسه وشعبه وأخيه الإنسان.. من كل أنواع العبودية لغير الله عزّ وجلّ.

تلكَ إذن.. كانت أصول الإسلام الثلاثة، التي ينبغي أن ينطلقَ منها المسلم المؤمن.. لكنّ الله عزّ وجلّ أسّسَ لنا عليها أركاناً خمسة، هي: الشهادة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.. هذه الأركان الخمسة تهدف إلى ما يأتي:

1- توفير التربة الصالحة للمؤمن بشكلٍ مستمر.. لتغذيته بالزاد المهم الضروريّ، للسعي باستمرارٍ إلى ترسيخ الأصول الثلاثة المذكورة آنفاً.. في نفسه، وفي كل مكانٍ يستطيع الوصول إليه.. لنجده يتذكّر دائماً أن لا إله إلا الله، ولا وسيلة لتحقيق ذلك إلا الجهاد في سبيله، ولا شيء يحرّك النفس البشرية للسعي في سبيل الله لتحرير البشرية إلا التذكّر بأن هناك يوماً آخِر، فيه يُثاب الناس على التزامهم بتأدية الأمانة الموكلة إليهم من قِبَلِ ربهم عزّ وجلّ.. أو يعاقَبون على تفريطهم وتقاعسهم عن ذلك!..

2- وحَمْلُ الإنسان المؤمن على تبني منهج الله عزّ وجلّ، وبشكلٍ دائمٍ، وبأفضل صورةٍ ممكنة.. وتنفيذ ذلك المنهج الرباني في شؤون الحياة كلها.

قد نتحدّث عن الأركان كلها، برؤيةٍ تحليليةٍ شرعيةٍ علمية، في مناسباتٍ أخرى.. لكننا هنا سنتحدّث عن ركنٍ واحدٍ فحسب، هو ركن: الحج، لمناسبته خلال هذه الأيام المباركة.

*     *     *

الحج.. ذلك المؤتمر الإسلاميّ العالميّ الذي يجتمع فيه مسلمون من كل بقاع الأرض، وفيه يعاهِد المسلمُ ربَّه على السير لتحقيق هدف الإسلام في الأرض.. وعلى الجهاد الدؤوب بشتى أنواعه.. لنشر الإسلام، وتحرير المسلمين بل البشرية كلها.. من الظلم والاضطهاد والإذلال.

خلال الحديث عن الحج وشعائره.. لن نتعرّض للأحكام الفقهية والفوائد الثقافية والسياسية والأخلاقية من الحج.. فقد أبدع فقهاء الأمة ومفكّروها -مشكورين- في الحديث عن تلكم الأمور.. لكننا سنقدّم رؤيتنا بأسلوبٍ تحليليٍّ تأملّيٍّ لكل شعيرةٍ من شعائر الحج.. فنكشف كنهها وأهميتها وهدفها.. ولنربط بينها جميعاً.. ونخلص إلى نتائج مهمةٍ.. هي الهدف الذي فرض الله لأجله الحج على المسلمين، ركناً من أركان دينهم العظيم القويم.

إذن، لنقف معاً بتدبّر، عند نفحاتٍ وتأملاتٍ إيمانية.. فنكشف عَظَمةَ ديننا وشعائرنا الإسلامية.. التي تسبر أغوار النفس الإنسانية للمسلم.. فتجعله يجيب على السؤال الكبير:

لماذا فُرِضَت هذه الشعائر، وما حقيقتها وحقيقة أهدافها.. ثم ما الهدف الكبير من ركن الحج كله؟!..

*     *     *

إذا صنّفنا شعائر الحج.. فسنجد أنه يتكوّن من الشعائر الأساسية الآتية:

1- الإحرام.

2- التلبية.

3- الطواف.

4- السعي.

5- الوقوف بعرفة.

6- النحر.

7- رَمي الجمرات.

8- الإقامة في (مِنـى).

*     *     *

وإن ألقينا نظرةً تدبّريّةً تحليليةً على كل شعيرةٍ من الشعائر المذكورة آنفاً.. فإننا نقول:

أولاً: الإحرام خطوة تجهيزية

في بداية الحج، يجد الحاج المسلم نفسَه أمام أول شعيرةٍ من شعائره، هي الإحرام، فيتحلّل من الثياب المخيطة، وينظّف جسده نظافةً تامةً، ويكشف رأسه، ثم يضع على بدنه -ليستره- قطعتي قماشٍ بسيطتين غير مخيطتين.

لا يجوز للمُحرِمِ أن يُخاصِمَ أحداً من الناس.. كما لا يجوز له أن يقصَّ شعره أو ظفراً من أظافره، ويُحَرَّم عليه الصيد في الحَرَم، أو اقتراف أيٍ من السيئات، كما يحرم عليه التطيّب بالعطر، أو ممارسة الحياة الزوجية العادية.

نحن إذن أمام شعيرةٍ يبدأ فيها الموسم التعبّديّ للحج، وحتى يكون تنفيذها صحيحاً وكاملاً، وحسب ما تقتضيه أوامر الله عزّ وجلّ.. ينبغي أن يقوم الحاج المـُحرِم بما يأتي:

1- الإقبال على الله عزّ وجلّ بنفسٍ نظيفة، وجسمٍ نظيف، وروحٍ نقيةٍ طاهرةٍ مُحْسِنةٍ غير مُذنِبة.

2- التجرّد الكامل من مفاتن الدنيا، ومن التمايز بين الناس، الموجود عادةً في الحياة العادية، ومن الانشغال عن هدف الحجّ وعن العبادة والتذلّل إلى الله عزّ وجلّ خالق الخَلقِ وحده.. بأيّ عملٍ أو تصرّفٍ مهما كان صغيراً، حتى لو كان قَصّ شعرٍ أو تَقليم ظفر!..

هناك إذن.. توجّه كامل بكل الجوارح، وتركيز كامل بكل المظاهر الداخلية والخارجية للنفس البشرية، وتهيئة للرّوح الإنسانية.. للإقبال على عبادة الله عزّ وجلّ وحده، بلا حواجز ولا مَراسم ولا أي أمرٍ شاغلٍ للنفس عن هذا الإقبال النقيّ الصافي باتجاهه سبحانه وتعالى.. فهي الخطوة الأولى التمهيدية لما سيتبعها ويؤازرها من خطوات.

*     *     *

الحَجُّ مَدْرَسةٌ تربويةٌ إيمانية

(2من4)

بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف

ثانياً: التلبية: تأكيد على أنّ الحج هو لله عزّ وجلّ وحده لا شريكَ له

منذ قيامه بالإحرام ودخوله الحرم الشريف.. يبدأ الحاج بالتلبية ويبقى يلبي حتى آخر فترة الحج تقريباً (حتى رمي الجمرة الأولى).. فيرفع صوته بالنداء حتى يبحّ صوته، كما كان يفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان يأمرهم رسولنا وحبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام:

لبيكَ اللهمّ لبيك..

لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك..

إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك..

لا شريكَ لك.

لنتخيّل المشهد العظيم:

كل المؤمنين المتوجّهين إلى بيت الله الحرام، من كل أصقاع الأرض وأركانها.. يهتفون بهذا الهتاف الخالد، فيقولون ويعلنون:

جئناكَ ياربَّ الأرباب، ويا خالق الخلق كلهم، جئناكَ نُلَبّي نداءكَ، فأنتَ ربُّنا وحدكَ لا نعبدُ إلهاً ولا نُطيع ربّاً سواك، ولا نستمدّ منهج حياتنا إلا منك، ونُعاهدكَ على الـمُضيّ قُدُماً لتحقيق حُكمكَ وحاكميّتكَ في الأرض، وتنفيذ شرعكَ.. ونحمدكَ يا ربّ العزّة على كرمكَ معنا ومَنحكَ إيانا مَنهجكَ العظيم.. فهي نعمتكَ التي لا تُقَدَّر بثمن.. ونحن يا ربّ طوعُ أمركَ، ورَهنُ إشارتكَ، ننفّذ ما تأمرنا به من غير تلكؤٍ أو كللٍ أو مللٍ أو تقصير.. فأعِنّا يا ربنا على ذلك، فأنتَ خير مُعين!..

فالتلبية هتاف المسلم الخالد، الذي يعلن فيه المؤمن أنه ما أتى إلا لتنفيذ أمر إله السماوات والأرضين وحده.. وأنه قادم ليعلنَ عبوديته له وحده، في كل أمرٍ من أمور دنياه، فهو الخالق، وهو الحاكم وحده.. ويعاهده على الجهاد في سبيله وحده، بكل الأساليب الممكنة، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض.. فتتحقق العبودية التامة في الأرض كلها لربّ الأرباب، الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد.

ثالثاً: الطواف: حول قِبلة المسلمين ووجهتهم.. أينما كانوا في الأرض كلها

الكعبة المشرَّفة هي قبلة المسلمين التي يتوجّهون إليها في صلواتهم كلها، وذلك من أي مكانٍ في أصقاع الأرض وأقطارها.. هذه الكعبة الشريفة يأتي إليها الحجاج المؤمنون مُلَـبِّين، ليطوفوا حولها سبعة أشواط، متذكِّرين أنّ هذه الكعبة قد بناها لهم أبو التوحيد والعبودية لله عزّ وجلّ وحده: سيدنا إبراهيم، مع ابنه إسماعيل، عليهما السلام.. ليشعرَ المؤمن بمشاعر إيمانيةٍ خاصةٍ تجتاح كيانه، فهذه الكعبة ما بناها إبراهيم عليه السلام بأمر ربه سبحانه وتعالى.. إلا لتحقيق وحدة المسلمين في أقطار الأرض كلها، على هدفٍ واحد، وليعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له، وينبذوا كل الآلهة والأرباب المزيّفين الحاليين والسابقين على مرّ التاريخ والعصور.

يطوف المؤمنون وهم يهتفون هتاف رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بسم الله، والله أكبر..

اللهمّ إيماناً بك..

وتصديقاً بكتابك..

ووفاءً بعهدك..

واتّباعاً لسنّة نبيّك..

ثم يدعو كل منهم ما يخطر في باله من أدعية، متوجهاً بقلبٍ صافٍ نقيٍ إلى ربّ العِزّة جلّ جلاله، طالباً منه العفو والغفران، والتأييد والدعم في كل شؤون حياته.

يطوف المؤمنون وفق دائرةٍ لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، مُعَاهدين ربَّ الأرباب جلّ وعلا بهتافهم المذكور، الذي يعني:

باسمك يا ربّ، يا أكبر من كل كبير، نُعَاهدك عهد الإسلام والإيمان، على أن نستمرّ معظم حياتنا بالحركة المستمرة والجهاد الدائم الذي يبدأ ولا ينتهي حتى تحقيق أهدافه، في تحرير الناس من العبودية لغيرك، وحتى يتهاوى كلُّ طواغيت الأرض، وينتقل الناس من عبادة الطغاة والعباد.. إلى عبادة ربِّ العباد والأرباب أجمعين وحده.. وسنورّث أهدافنا إلى ذرارينا التي ستأتي من بعدنا، لتستمرَّ -بعد رحيلنا عن هذه الدنيا الفانية- حركةُ الجهاد إلى يوم القيامة.. فيبقى كتابك الكريم هو الحاكم الوحيد الشامل لحياة البشر، تدعمه سنّة نبيّك وحبيبك محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. يا رب الأرباب: نُعَاهدكَ على كل ذلك، عهدَ التصديق والوفاء والإيمان.

وقفة: تتمّات الطواف:

1- ثم يصلّي الحاجُّ المؤمنُ ركعتين عند مَقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، باني الكعبة قبلة المسلمين، والـمُؤذِّن للناس بالحج، وداعيهم للقدوم إلى هذا اللقاء العالميّ الواسع من أقطار الأرض وأركانها كلها، ليُجَدِّدوا عهدهم عند بيت الله الحرام، بالاستمرار في الحركة والعمل والجهاد حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، ويكون دينُهُ ومَنهجُهُ هو الـمُحَكَّم بين الناس، ويُزال كل طاغوتٍ في الأرض إلى يوم الدّين.

2- وينـزل الحاج بعد ذلك إلى بئر زمزم، ليَعُبَّ من مائها المبارك، ويغسل رأسَه.. فيتذكّر معجزة الله عزّ وجلّ في تفجير مياه هذه البئر، إكراماً للسيدة هاجَر زوجة نبينا إبراهيم عليه السلام، وإغاثةً لها ولولدها إسماعيل عليه السلام.. وما تزال هذه المياه المتفجرة متدفقةً منذ آلاف السنين.. تفجّرت في صحراء قاحلة، واستمرت، وستستمر بإذن الله.. فشرب منها ملايين الملايين من الناس.. وسيشرب منها ملايين أخرى، وأخرى.. يتذكّر الحاجُّ المؤمنُ بذلك كلّه، أنّ اللهَ سبحانه وتعالى قادرٌ على كل شيء، وهو وحده ناصر المؤمنين، وقاهر الجبارين مهما بلغت قوّتهم.. وكما تفجّر المستحيل بتفجير ماء زمزم واستمرار تدفّقه.. فسيبزغ فجر الإسلام والمسلمين من أعماق المحنة والإحباط.. وكما أغاث اللهُ عزّ وجلّ السيدةَ أم إسماعيل وولدها إسماعيل عليه السلام، في مكانٍ ووقتٍ لا يمكن فيهما –بمعايير البشر- أن تتمّ الإغاثة.. فهو سبحانه وتعالى سيُغيث المجاهدين في سبيله، بنصرٍ وفتحٍ من عنده، يتحقق من أعماق الـمُعاناة وحُلكة الظلام، مهما اشتدّ اسوداداً ومأساويّة.

*     *     *

يتبع إن شاء الله..

وسوم: العدد 1037