جنين: زمن الأحفاد

ماذا لو كان جوليانو مير خميس حياً ويقف اليوم خلف الكاميرا ويمشي فوق الركام، ويلتقط صور البطولة والجمال والشقاء في أزقة مخيم جنين.

منذ عشرين عاماً رأينا فيلمه المدهش «أولاد آرنا»، وعشنا مع سيرة الأطفال الذين تحولوا من ممثلين يلهون بطفولتهم في مسرح الحرية في مخيم جنين إلى شهداء نراهم يموتون وهم يحملون في عيونهم نور الحياة.

وبعد عشرين سنة، أتى جيل أبنائهم ليكتب ملحمة جديدة.

ماذا سيقول زكريا الزبيدي الذي رأيناه طفلاً في فيلم جوليانو ثم مقاتلاً شاباً يقف إلى جانب علاء الصباغ الشهيد، وهو يرى جيل الأحفاد يحتل المساحة كلها، معلناً أن الحرية كالأرض، هي الإرث الفلسطيني الذي تسيّجه الإرادة وينتصر على الموت بالموت؟

إنه إرث النفق الذي حفره أبطال جلبوع، وهو يتحول إلى أنفاق حرية في المخيم، وإلى أفق يصوغ لغتنا بنسغ الحياة الطالعة من أعماق الألم.

جمال حويل الذي كتب ملحمة جنين عام 2002، رأى بعيني قلبه كيف كبر الأحفاد وخرجوا من الكتاب كي يسطّروا الحكاية من جديد.

لهؤلاء الأحفاد نفرش لغتنا على أرض المخيم التي مزقتها الجرافات، كي يمشوا عليها ويعيدوا المعنى إلى المعنى.

***انتهت معركة جنين الكبرى الثانية بمشهد الجنود الإسرائيليين وهم يخرجون من أطراف المخيم التي عاثوا فيها تخريباً وتدميراً، لنرى الفدائيين وهم ينتشرون بكامل كرامتهم وسلاحهم في المخيم، معلنين أن المخيم باق على عهد المقاومة، وأن فلسطين عصية على الموت.

عام 2002 رسم مخيم جنين مشهداً مماثلاً رغم دماره وسقوط العشرات من الفدائيين وعلى رأسهم قائد المخيم الأسطوري أبو جندل. المقاومة التي غرسها تحرير جنين من الاحتلال الإسرائيلي في معركة كبرى في حزيران-يونيو 1948، كبرت وصارت جنائن للحرية.

مخيم جنين صار قبلة المقاومين، لكنه ليس استثناء، إنه القاعدة، هكذا يجب أن تقرأ تجربة الصمود أمام هول الآلة العسكرية الإسرائيلية. فما جرى خلال يومين من المعارك والقتال والكر والفر، وما شهدته أنفاق المخيم من بطولات ليس استثناء، إنه دعوة لأن تكون جنين هي كل فلسطين.

سر جنين هو كتيبتها، وسر الكتيبة هو أنها استعادت زمن بدايات العمل الفدائي، حين كان الهم واحداً، والرؤية واحدة. وكان شعار «كل البنادق نحو العدو» هو الشعار الذي أخرج فلسطين من عتمة الغياب.

في كتيبة جنين كما في عرين الأسود في نابلس، كما في عمليات المقاومة التي يقوم بها أفراد سواء انتموا إلى تنظيمات أو لم ينتموا، يعلو صوت واحد هو صوت مقاومة الاحتلال، صوت تذوب فيه الاجتهادات السياسية والفكرية المختلفة، ويتوحد في أتون المواجهات.

هذا هو المعنى الذي قدمته جنين ومخيمها، مواجهة شاملة ورفض للانحناء، وإصرار على بناء لغة وأفق جديدين يعيدان تأسيس فكرة فلسطين.

كم تبدو الأمور بديهية، فالقرار الإسرائيلي المعلن بضم الضفة الغربية والقدس، والتوحش الاستيطاني والاعتداءات على القرى والبلدات، والحرائق التي يشعلها المستوطنون في كل مكان، لها جواب واحد هو المقاومة.

غير أن الوصول إلى البديهي كان دونه أهوال أوسلو، ووهم المفاوضات، وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية فلسطينية اعتقدت أن السلطة هي بديل الوطن، والأمن بديل الأمان، والذل بديل الكرامة.

الزمن الذي تأسس بعد هزيمة الانتفاضة الثانية قام على وهم بناء دولة تحت الاحتلال، ورطانة نيوليبرالية صنعتها طبقة المقاولين التي استولت على الفضاء الفلسطيني العام بعد الانقلاب على رؤية فتح التي جسدها صمود عرفات في المقاطعة بعد استشهاد أبو جهاد وأبو إياد.

كان ثمن الخروج من زمن هذا الانقلاب، الذي رعاه الأمريكيون والإسرائيليون، وجاء الانقسام الدموي في غزة ليملأه بالجروح والدم، باهظاً.

كتيبة جنين ومجموعات عرين الأسود والتراث الحي لكتائب شهداء الأقصى، جاءت لتتوج انتفاضة شعبية اتخذت أشكالاً متعرجة كي تستعيد قوامها، من انتفاضة السكاكين إلى عمليات الدهس، وصولاً إلى نفق الحرية في سجن جلبوع.

راكم الفلسطينيات والفلسطينيون عملية بحثهم عن أفق جديد بالمعاناة والصبر والموت. ولعل النموذج الأكثر سطوعاً لهذه المعاناة هو تجربة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. لم يكتف الأسرى بحفر أنفاق حريتهم تحت الأرض، بل حفروا أنفاقاً ثقافية وفكرية ونضالية، حفروا تحت اللغة وتحت الروح، كي يرسموا حريتهم، عبر الروايات والدراسات وتأسيس جامعة هداريم في السجن، التي يشرف عليها مروان البرغوثي. لكن الأساسي والمدهش في هذه التجربة الإنسانية والنضالية الكبرى أنها جددت الفكر المقاوم حين حولته إلى نمط حياة.

لذلك، ليس مستغرباً أن ترنو الأبصار، وسط هذا اللهب الذي اشعلته جنين، إلى القائد الأسير مروان البرغوثي ورفاقه من قادة الحركة الأسيرة، الذين يجسدون أفقاً جديداً لقيادة لم تتلوث بمغريات السلطة ولم تهادن أو تنحني.

درس جنين لمن له عينان للنظر وأذنان للسمع بالغ البساطة والوضوح، وقد لخصه أحفاد آرنا، معلنين أن زمن الأحفاد يحمل جمرة المقاومة كما حملها علاء وزياد وزكريا وجمال وأبو جندل منذ عشرين سنة.

إن قراءة وقائع سنوات الغيبوبة التي أعقبت هزيمة الانتفاضة الثانية تثير الأسى، فلقد تابع الناس مقاومتهم بطرق عفوية وخارج كل معادلات الثقافة السائدة التي ترهل فيها الوهم، وجعلها مجرد رطانة تلهو بانحطاطها.

سكتت الكلمة فتكلم الجرح وانتصب باسل الأعرج ليعيد رسم خريطة الكلام، وتم حفر أنفاق الاحتمالات تحت اللغة، كي تنتصب روح المقاومة، معلنة أن فلسطين حين تقاوم وحدها فإنها تجسد اليوم لغة الحرية التي يبحث عنها العالم العربي الذي يحتله صمت الاستبداد.

وسوم: العدد 1040