العلمانيون عندنا دخلوا جحر الضب ، ولم يخرجوا منه بالرغم من مغادرة الضب له إلى جحر آخر وخلفه العلمانيون الغربيون

رغم أنف العلمانيين الذين يعانون من سُعر التجني على الأحاديث النبوية الشريفة ،سنقدم بين يدي هذا المقال بالحديث الوارد في صحيح الإمام البخاري رحمة الله عليه ، وجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وهو حديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : " لتتبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ـ اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " .

وهذا الحديث من نبوءات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كشفها الله تعالى له قبل أن يأتي زمن حدوثها  ، وهي مما أكد نبوته لكل شاك أو متردد. ومضمون هذا الحديث ،يعبر عن زمن فقدان بعض المحسوبين على الإسلام هويتهم بوقوعهم في تقليد اليهود والنصارى التقليد الأعمى في كل ما يصدرعنهم من انحراف عن الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها . ومن أجل بيان مدى درجة  تقليدهم الأعمى ،واتباعهم في انحرافهم ،ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم  الحد الذي قد يبلغه المقلدون في تقليدهم بحيث يصل الأمر إلى سلوك جحر الضب وراءهم  إذا ما سلكوه. ومعلوم أن جحر الضب هو أنتن حيز على الإطلاق حيث تنبعث منه رائحة بوله الكريهة . ولا يصل إلى هذا الحد من التقليد إلا فاقد الشخصية ، ومعطل الإرادة ، والراضي بالانبطاح ، وبالدنية ... وعليه ينسحب كل وصف يوحي بقبول الذل والهوان ،وصدق الشاعر المتنبي إذ يقول:

ومن يهن يسهل الهوان عليه         ما لجرح بميت إيلام

ولقد صدقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصرنا هذا على شريحة ممن يحسبون على الفكر والثقافة والمعرفة كما يتوهمون ذلك ، وهم في الحقيقة مجرد ببغوات  يجترون فكر غيرهم . وتحقيق هذه النبوءة بدأت مع حركات احتلال بلاد الإسلام في القرن التاسع عشر ، والتي كانت مسبوقة بما يسمى الحركة الاستشراقية التي كانت تمهيدا لذلك الاحتلال ، والتي موه أصحابها عليه  بزعم أن هدفهم علمي ، وأنهم يرومون نفض الغبار عن تراثنا الإسلامي . ولقد كان هذا مسلك من المسالك التي سلكها المنبهرون بهم من عناصر شريحة مستلبة مستغربة ، فالتقطوا منهم فكرة التشكيك في تراثنا الإسلامي ، وذهب بعضهم بعيدا في ذلك التشكيك حتى بلغ بهم الأمر حد  دخلوا المرحلة " الضبية "، وهي أقصى ما يمكن أن يصله المقلدون التقليد الأعمى للتشكيك الاستشراقي في تراثنا.

وما زالت شريحة المقلدين للمستشرقين تتعاقب عناصرها في بلاد الإسلام مع مرور الزمن، وهي بمثابة طابور خامس مأجور إلى يومنا هذا . ويركز تشكيكها في التراث على  كل ما له صلة بالإسلام من قريب أو من بعيد، لأن حركات الاحتلال الغربي لبلاد الإسلام، إنما كانت جولة من جولات ما يعرف بالحروب الصليبية ، وهي حروب لن تنتهي أبدا  حتى تقوم الساعة ، وهي تأخذ أشكالا وأساليب مختلفة حسب الظروف مع أن غايتها في نهاية المطاف واحدة ووحيدة .

ولقد ازدادت وتيرة التشكيك في تراثنا مع اندلاع ثورات الربيع العربي، التي كشفت عن رهان الشعوب العربية على الإسلام  للخروج من مرحلة ما بعد فترة الاحتلال الغربي الذي رحلت عساكره عن الوطن العربي ، وبقيت آثاره السيئة  التي منها هيمنة الأنظمة المستبدة، والتي لا يقبل الغرب بديلا عنها، حرصا على مصالحه التي كانت سببا في احتلاله وطننا العربي ، والتي لا يمكن أن تضيع بسبب وضع بديل عن وضع ما بعد جلاء عسكره .

ولقد عمل الغرب كل ما في وسعه لإجهاض كل ثورات الربيع العربي ، وكان آخر إجهاض  لها ما وقع في تونس التي كانت ثورتها في طليعة كل الثورات العربية. ومن أجل التمويه على هذا الإجهاض، ارتفعت وتيرة التشكيك في التراث الذي تراهن عليه الأمة من أجل خروجها من وضعية ما بعد جلاء الاحتلال الغربي التي تمثلها أنظمة شمولية مستبدة .

والحملة الحالية في بلادنا، والتي استهدفت الحديث النبوي الشريف من خلال استهداف شخص الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، واستهداف أهل العلم والاختصاص بالحديث  قديمهم وحديثهم ، هي فصل من فصول التشكيك التي بدأت أول مرة مع المستشرقين الممهدين للاحتلال الغربي  للوطن العربي .

وبالأمس، وأنا أتصفح موقعا إلكترونيا  دأب على فسح المجال واسعا لعناصر الشريحة العلمانية المتجاسرة على الإسلام، استوقفني مقال تحت عنوان : " رسالة في النص الديني والتدين ..." لصاحبه المدعو حميد التوزاني  بدأه بعبارة : " لماذا نصر على العيش خارج التاريخ ؟ "، وهو يقصد بطبيعة الحال الأمة المسلمة ، والمغاربة جزء منها .  وبعدما ذكر أن العالم ـ وهو يقصد بطبيعة الحال الغرب ـ يعرف تطورا  أو تقدما هائلا يوشك أن يصبح تهديدا لاستمرار الحياة على سطح الأرض ، بسبب أزمة التلوث، وهيمنة الرقمنة ، ودعوة المثلية ،وكل ذلك يهدد الجنس البشري، يظهر الإنسان المسلم مثقلا بأحمال التاريخ ، وهو بعيد عن هذا التطور بسنوات ضوئية، يلاحق سراب صحراء ، يسير خلف الأمم المتقدمة بإرادة فولاذية، تتحمل عبء كل تفاصيل ذاكرته وموروثه ، لا يستطيع التخلي عن الماضي، وهو يراه كله انتصارات وانجازات... هكذا نجد التراث الديني يحضر في كل تفاصيل الحياة اليومية ، بدءا بكيفية ركوب السيارة ، ومرورا بكيفية دخول المرحاض ، واختيار اللباس ، وانتهاء بآداب الجماع ...إرث ثقيل يبقي الإنسان المسلم خلف قافلة التطور المسرعة ، وبذلك يظل خارج التاريخ .

والمتأمل في هذا الكلام، يلاحظ تناقضا صارخا بين وصف  كاتب المقال حال العالم الغربي من جهة بالتطورالسريع ،وبين وصفه بالمهدد للبشرية . وإذا كان مصير البشرية مهددا بهذا الشكل ، فلماذا يلام الإنسان المسلم على تخلفه عن ركب هذا التطور بسنوات ضوئية ؟ ولماذا سيتخلى عن ماضيه ،وعن تراثه وفيهما خلاص مما يتهدد البشرية ، وهو جزء من هذه البشرية المهددة في وجودها ؟

وقبل تفصيل صاحب  هذا المقال فيما كشف عنه في مقدمة مما سماه رسالته الأولى ، وقد وعد بأنه سيردف برسالتين ، وبكل استعلاء ، وغرور، ووقاحة يقول :

 " قبل الانطلاق في رصد مفصل لبعض أنماط تفكيرنا الخرافية والخارجة عن الدين والتاريخ ، والتي ستقسم إلى ثلاث رسائل، تسائل النص الديني والتدين ، وهذه هي الأولى ، لا بد من التنبيه إلى أن مضامين هذا النص، لا تلائم كل إنسان يفضل منطقة الراحة أو عدم التفكير ، ولا تلائم كل مؤمن بوجاهة التقليد والنقل بدل التجديد و استعمال العقل، لأنه بكل بساطة ،سيقرأ  ما يزعجه ، ويحرج أوهامه المقدسة ، لذلك أنصح كل قارىء ينتمي إلى هؤلاء بالتوقف هنا، احتراما لاختياره قداسة النقل " .

وتحت عنوانين كبيرين: الأول سماه " النقل منهج الكهنوت، والعقل منهج الله" ، والثاني سماه " بعض النصوص الدينية تسيء إلى الإنسان والإسلام "، وتحتهما أباح لهواه أن يتقول على النقل بما يعكس من جهة جهله  الصارخ به ، ومن جهة ثانية بما يعكس تهافت كلامه ، وعليه ينطبق قول الشاعر الحكيم المتنبي إذ يقول:

وكم من عائب قولا صحيحا       وآفتـــه الفهم السقيـــــــم

ولكــن تأخـــذ الآذان منــــه       على قدر القرائح والعلوم     

ودون الخوض فيما  جاء  تحت هذين العنوانين ، وقد اتضح مقصود صاحبهما من خلال  مقدمته، و من خلال تحذيره  ، نستحضر ما جاء في محاضرة قيمة للمفكر المرحوم عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه الذي تأسف على العلمانيين العرب، وقد تخلفوا عن أمثالهم في الغرب ، ولم يدركوا دلالة ما بعد الحداثة ، وظلوا يسوقون للحداثة ، وقد نفق سوقها بسبب ما جرته على العالم من ويلات ، وهو اليوم يدخل مرحلة خراب القيم، لأن من نظروا له من فلاسفة الغرب أو لنقل خططوا لحياة الناس، قد رفعوا شعار : " لا إله والحياة مادة " ، وجعلوا بذلك هذه الحياة مفلسة روحيا  ، وقد دخلت مرحلة ما بعد الإفلاس أو الانهيار بسبب طغيان الفكر المادي على سيادة فكر القيم والأخلاق أو لنقل الفكر الإسلامي  . ولهذا فإن العلمانيين العرب ،ومنهم مغاربة، قد دخلوا جحر الضب وراء صناع العلمانية في الغرب، ولم يخرجوا منه بالرغم من مغادرة الضب له، ووراءه العلمانيون الغربيون ، ولعل الضب قد زكمته  نتانة رائحة  فكرالعلمانيين العرب بمن فيهم مغاربتنا وقد فاقت نتانة رائحة بوله .

وآفة هؤلاء العلمانيين العرب الداخلين جحر الضب وراء العلمانيين الغربيين ، وهم  في أصلهم نصارى ويهود وهم يقلدونهم شبرا بشير وذراعا بذراع، أنهم جاهلون بحقيقة الإسلام ، متطفلون على  المعرفة بالوحي قرآنا وسنة ، وليسوا منهما في عير ولا في نفير كما يقال  ، إن هم إلا  راكبو غرورهم ، يدعون  فيهما علما ، وهم فاقدون ما يتطلبه العلم بهما من مؤهلات ، لهذا لم يجدوا بديلا عن افتقارهم إليها سوى أسلوب التشكيك في من هم أحق بها وأهلها ، قدماء ومحدثين ، وهم بذلك  يداعبون مشاعر بعض المفتونين  بهم،  تقليدا لهم  سيرا على نهجهم في العمى والضلال .

وخلاصة القول، أن هؤلاء شرذمة مأجورة في هذا الظرف بالذات من أجل خلق هوة بين الشعوب العربية ، وبين ما كانت تتطلع إليه من خلال ثورات ربيعها ،وهو الرهان على الإسلام للخروج من الوضع السياسي المزري المكرس لما بعد النكبة والنكسات ، والذي يروم حمل هذه الشعوب على التسليم بما يراد له أن يكون أمرا واقعا ، وما هو في الحقيقة سوى محاولة يائسة، ستتبخر كما تبخرت محاولات سابقة قبلها، لأن الثورات عبارة عن براكين لا تخبو إلا لتنشط من جديد ، ورب بركان متوقع يكون أقوى من بركان قد خبا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وسوم: العدد 1042