الموت حَرًّا خلف القضبان
يمر العالم في هذه الآونة بإحدى الظواهر المناخية التي يقف حيالها موقف المراقب عاجزا ضعيفا، وهي ظاهرة «النينو» التي أدت إلى هذا الارتفاع القياسي في درجات الحرارة، بما يهدد حياة البشر، ويهدد أمنهم الغذائي بتأثيره على المحاصيل الزراعية، وينذر بالحرائق الكبرى، وغيرها من الكوارث المحتملة مع هذا التغير المناخي. وفي الوقت الذي يتجه فيه الناس إلى توقي آثار هذه الظاهرة، والهروب من تأثير القيظ إلى الشواطئ والمبردات، وكل ما من شأنه تخفيف شعورهم بدرجة الحرارة المرتفعة، تكون هناك كالعادة فئات منسية، لا تستطيع الهرب من تأثير المشكلة، وأبرزهم أولئك القابعون في السجون، سواء كانوا سجناء رأي أو جنائيين، وسواء أجرموا أو كانوا أبرياء.
في السجون العربية جحيم بمعنى الكلمة، هذا ما يؤكده أهالي السجناء في بلدان عديدة في الوطن العربي، ولست أعني بالجحيم هنا تلك الحياة غير الآدمية التي يعيشها السجناء في مأكلهم ومشربهم ونومهم، والمعاملة السيئة التي يُعاملون بها في السجون، فهذا أمر يطول شرحه، ولا يتسع المقال حتى للإشارة إليه، بل إنني أعني بالجحيم معاناة السجناء في تلك الحجرات الضيقة سيئة التهوية من ارتفاع درجة الحرارة.
السجناء في كثير من الدول العربية يقبعون في غرفة لا تتسع لأعدادهم الهائلة، وأقسم لي بعض أهالي السجناء في بلد عربي، أن أبناءهم يحبسون في غرفة ليس فيها سوى نافذة صغيرة جدا تقترب من السقف، وينامون على الأرض الإسمنتية، وأعدادهم في الحجرة الواحدة تصل من 50 إلى 60 سجينا، وكل واحد منهم يرقد في موضع شبر، وأحيانا لا يستطيع السجين منهم الرقاد بجسده كاملا، بل لا يتسع مكانه إلا للنوم جالسا، أو ممدا على ظهره ضامّاً رجليه. وهؤلاء محرومون من المراوح، يزيد من معاناتهم تلك التصميمات البشعة للسجون، التي روعي فيها شدة الإحكام، ولم تراع فيها آدمية السجناء. الأمر يزداد بشاعة في تلك الزنازين في بعض السجون العربية، التي يُحبس فيها السجناء بشكل دائم لا يخرجون منها إلى فترات للتريض اليومي، فإلى جانب الأمراض التي يصابون بها، جراء سوء التهوية وسهولة تفشي الأمراض المعدية، يأتي الحر بهذه الصورة ليمثل خطرا على حياتهم بتعرضهم للاختناق. إننا نسائل الحكومات العربية: لم أقيمت السجون؟ ولم شرعت عقوبة الحبس؟ أمن أجل العقوبة المحضة؟ أم من أجل إعادة تأهيل المجرمين ليخرجوا ويصبحوا أسوياء في مجتمعاتهم؟ إن كان السجن عقوبة، فالحبس في أماكن آدمية تراعي الإنسان وحقوقه التي لا يمكن أن تنزع منه إلا بمفارقة الحياة، هو أيضاً عقوبة ولو كان في قصر ملكي، فيكفي أن يعاقب الإنسان بتقييد حريته، كفى بها عقوبة أن يقضي الإنسان سنوات في مكان واحد لا يفارقه، فهو مجبول على الحرية، فلماذا يضاف إلى تقييد حريته تلك المعاملة البشعة التي نستاء إذا عوملت بها الحيوانات؟ من يعطينا الحق في أن نجحد حق الإنسان في نيل معاملة كريمة، حتى إن كان يقضي عقوبة جرمه في السجون، هو مخطئ وحاسبناه بالسجن، يكفي هذا، وإن كان السجن إصلاحا للجاني وتأهيلا له، فكيف نتوقع أن يعاد تأهيله بهذه المعاملة اللاآدمية، لا ريب في أنه سيخرج أكثر نقمة على مجتمعه وعلى دولته، لماذا نساهم في نزع الرحمة من قلبه وامتلائه بالقسوة والكراهية والحقد والعدوانية!
السجناء بشر، من حقهم أن يكون لهم مهرب من هذا الحر الشديد، كما سائر الناس خارج القضبان، وحيث أن إرادتهم مقيدة، فهي مهمة الدولة في تخفيف معاناتهم في هذا الحر الشديد. لماذا لا تراعى التهوية الجيدة في بناء السجون؟ لماذا لا يراعى في بنائها استخدام المواد العازلة للحرارة؟ ولماذا لا يتم تركيب المراوح في زنازين السجن وعلى نفقة الدولة نفسها؟ ولماذا لا تحظى هذه السجون بمبردات المياه؟ أليس من حق السجين الذي يقضي عقوبة جرمه أن يشرب جرعة ماء باردة كسائر الناس خارج السجون في هذه الأجواء الساخنة؟ بالطبع قد يعترض البعض على هذا السرد، ويخرج علينا ببعض المقاطع المصورة التي تظهر السجون في الدول العربية على أنها فنادق خمسة نجوم، لكن الجميع -عدا هؤلاء- يعلمون أنها لا تعدو أن تكون مشاهد مسرحية يتم الإعداد لها جيدا لتصويرها، فيبدو السجين وكأنه في مدرسة خاصة، يأكل طعاما لا يتاح لكثير من الناس خارج السجون، وينام على أسرّة نظيفة منمقة، ويقضي أوقاته في النهار في المكتبة للقراءة والاطلاع، ويتراص مع إخوانه السجناء أمام الشاشات الكبيرة من باب الترفيه، في مشاهد جعلت كثيرا من الفقراء والبؤساء خارج القضبان يتمنون أن يحظوا بمثل هذه السجون. وتغيب عن هذا المشهد منظمات حقوق الإنسان، التي يتواطأ بعضها مع المسؤولين لإبراز السجون للرأي العام بهذا الجمال والروعة والرعاية الكاملة للإنسان السجين، وبعض هذه المنظمات تقع ضحية للتضليل من قبل الحكومات والقائمين على السجون، أما المنظمات الأجنبية، فإنها لا تعبأ بالسجناء داخل الوطن العربي، لا تتدخل إلا إذا كان السجين من دول الغرب. لا أعلم من تصله هذه الإشارة وهذه الاستغاثة، ولا أدري هل يكون لها أثر في لفت النظر إلى هؤلاء التعساء بين القضبان في هذا القيظ أم لا؟ لكنني لم أكن لأصمت عن هذه القضية وأنا أشتكي كغيري من حر هذا الصيف ونحن الطلقاء، فكيف بهؤلاء السجناء الذين هم في النهاية بشر مهما اقترفوا، فيا ليت قومي يعلمون، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1042