الفولكلور الشعبي يستعيد المزيد من ألقه في منظومتي القيمية الشخصية
وأقصد في هذا السياق بالضبط، الفولكلور الثقافي الأدبي، المتمثل في الأمثال، والروايات والحكايات الشعبية، من أيام "كان يا ما كان في قديم الزمان، نحكي قبل ما نام ونصلي على محمد البدر التمام.."
ثم نحكي حكاية الطير الأخضر الذي يمشي ويتبختر، وبقول: أنا الطير الأخضر بمشي وبتمختر مرت ابوي ذابحوني، وأبوي آكلوني وأختي الحنونة دفنت عظامي في المرج الأخضر..
أو حكاية عنقا بنت الريم التي حبستها الغولة في قصر عال ولا أبواب له، وتظل الغول تصعد وتنزل منه متعلقة بشعرها. وتنادي عليها: عنقا عنقا بنت الريم دلي شعرك هلطويل..
ربما ترهبني أكثر حكاية الجميلة هند التي استأثر بها الأمير وقرر ذبح أخاها، فينادي الاخ على أخته: يا هند ويا هنود، ويا مسك وياعود، أخوك هلمسكين سنوا له السكاكين..
وعدت أمر على بيوت الخالات والعمات أنادي: يا عميمة وأنا على ظهر الغول والغول بدو ياكلني عطيه كف طحين بلكي بدشرني
تؤثر في أكثر الفتاة البريئة التي ذهبت إلى مكتب الشيخ باكرا فوجدته يأكل زميلتها الفتاة؛ ويظل يسألها: ماذا رأيت من شيخك، فتجيب، يصلي ويصوم ويعلمنا القرآن..
وأسير معها في محنتها حين تتزوج وينتزع شيخها أطفالها، واحدا بعد آخر
وتظل على كلامها الأول، وتصير إلى صرة صبر وصرة حناء وتناجيهما وتقول: يا صبرة حدا صبر قدي، يا حنة حني عليّ..
محفوظات الشيوخ في التاو الحلبي لا تغرق بالماورد، صحيح ونحن أطفال كنا ننشد "وشيخنا يستأهل الجزيل.. وألف دينار له قليل.." إلا أن مأثور هذه الطبقة من الناس، ليس كما نتوقع في المأثور البلدي. بل إن هذا البيت نفسه وألف دينار له قليل..
هو عنوان تكمله نصوص ربما يتاح لي إفرادها في جزء لطيف..
وأكثر ما علمنا أهلنا السياسة، في حكاية الصراع بين الغولة وبين "قصيبان" و "قزيزان" و "حديدان" حيث تستطيع الغولة بنفخة- الحكاية تتحدث عما دون النفخة- أن تنسف حصن الأولين، و "حديدان" وحده هو الذي يبقى في الميدان، ويشتق الحلبيون مثلهم "ما بقي في الميدان غير حديدان" ويقصدون "جمل المحامل" الرجل المعد لكل كرب، يقابله بعقله وليس فقط بحديده!!
وتأخذنا حكاية "أرض الكوسا لا تدوسا" بعيدا في التحذير من الغدر، وتحكي لنا الوصية في الصراع مع العفريت أو مع التنين، أنه ليس للضعيف إلا الضربة الأولى "وإذا قال لك ثني قل له ما علمتني أمي" تأخذه على غرة حين تكون عيناه مفتوحتين، فالعفريت حين ينام تكون عيناه مفتوحتين. فانتبهوا..
وحكاية "سن الثوم" تأخذنا بعيدا في حكايات الخيال العلمي، عن الطفل الخداج الذي لا يؤبه له؛ ويحقق لوالديه الاعاجيب، يقدم الخدمات، وينتصر على اللصوص.
وفي حكاية القطة التي قطع القهواتي ذنبها؛ نعلم أطفالنا عن مصادر أرزاقنا فالملقط من الحداد والبيضة من الدجاجة، والحليب من البقرة، ولكل شيء ثمن، إلا الماء فهو متاح مقابل رقصة شكر، وأغنية تطرب لها عين الماء.
وتأخذنا حكاية "العنزة العنوزية" وأولادها "حسحس وبسبس وحباب ورباب" بعيدا في عالم الأمومة ووجوب طاعة الأمهات، و حكاية "حسن الأقرع" إلى وجوب تضحية الأبناء من أجل والدهم الملك..
أعتقد اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن هذه الخلاصات هي وليدة معاناة مستمرة، معجونة بماء الصدق، من غير زيف.
وحين تستعيد هذه المنظومة ألقها في نفسي وعقلي وقلبي وقد ناهزت الثمانين. وأوغلت
في معرفة الناس، أفرادا وطبقات، وفئات.. وبت أشكو إلى مولاي غروري..وعجلي وقصوري وبيعي رخيصا ما كان يجب أن أغليه..
أعود اليوم إلى كثيرا من الصياغات التي غمزتها ولمزتها حينا من الدهر، أستعيدها هذه الأيام، وأنا أكثر ثقة بمضامينها وتقويمها وفرزها وتوصيفها.
وأرجع على نفسي بتهمة السذاجة والعفوية والتلقائية والمباشرة لأنني منحت الثقة المفرطة لعناوين، كان حظها في المأثور الشعبي أكثر سلبية، تأخرت..؛ بل أصبحت خارج إطار الزمن المفيد، حتى وعيت هذه الحقائق.
وكذا في تلخيص التجارب والدروس والعبر…
أنظر حولي اليوم إلى كل الرايات، فأراها واحدة بخلفياتها، وحقائقها، وإن اختلفت فيما يدو توجهاتها. الزوابع والأعاصير تدور في أرضها وتبتلع كل من يقترب منها. ولا سيما من الكائنات والأجسام الخفيفة؛ ربما كان المطلوب أن أكون أو تكون أكثر ثقلا.. لا يغنيني ولا يغنيك أن نعي هذا بعد أن كنا حطاما…
ولكنني ما زلت أستطيع أن أؤشر بيدي: "مقص"، وإن في غمرات الموج أو الموت..
"مقص "حكاية" نحكيها في كتاب "التاو" الخاص بنا، لكي لا نضل ولا ننسى.
كتاب "التاو" هو كتاب من مأثور الحكمة عند الصينيبن، يقدسونه ويرجعون إليه، في حياتهم العامة والخاصة. تجدون بعض ترجمات وأحاديث عنه في الثقافة العربية.
أنا لا أدعو إلى تقديس "التاو" أو "الطاو" المجتمعي العربي أو الشامي، والشام من العريش إلى القامشلي، ولا أقبل أن أضعه في مواجهة المقدس الذي نؤمن به، بل أنتقد فكرة وضع أي شيء نتعاطاه في مواجهة المقدس، أو في كفة مقابلة لكفته..
في فضاء ركوب المدارات (طَبَقًا عَن طَبَقٍ) كما يعبر القرآن الكريم سيكون لكل مدار فضاؤه، وحاله وقانونه.
ما أصبح يقينا عند أجيال من الناس على مدى أربعين جيلا ليس من السهل شطبه، والأفق الذي دُعي الناس إلى ارتقائه منذ الأيام الأولى للدعوة الربانية؛ من الادعاء أن يظن كل الناس أنهم قد بلغوه..
حين ييأس المرء من خطاب الكبار يجد في العودة إلى جيل طفولته كل الغنى..
وسوم: العدد 1048