العزلة.. والعزلة الشعورية
للأستاذ الكبير الشهيد سيد قطب رحمه الله، كلام جميل في موضوع العزلة الشعورية، فَهِمَه بعض الإسلاميين فهماً مغالياً، إن لم نقل: فهماً معكوساً.
وخلاصة فكرة الأستاذ الشهيد أن يشعر المسلم بالتميز حين يعيش في مجتمع إسلامي يشذ عن قواعد الإسلام في بعض جوانبه، أو في مجتمع غير إسلامي.
هذا التميز، أو العزلة الشعورية، ينبع من اعتزاز المسلم بدينه الحق، والتزامه به، وعِلْمه أن مصدر التلقي عنده في الاعتقاد والأخلاق والنظم... مصدر رباني. وهذا يعصمه من الذوبان، ومن الشعور بالهزيمة أمام باطل مدجّج بالسلاح، مدعّم بزخرف القول، تقف وراءه دول ومؤسسات تمدّه بالمال والتقنية والتخطيط والفكر...
فحين يخالط المسلم الناس في مجتمعات تدين أصلاً بغير الإسلام، أو تنتمي بجملتها إلى مبادئ جاهلية، فإن عليه أن يتمسك بعقيدته وهويته وأخلاقه، ويعرف واجباته وحدوده، ولا يجاري الناس في الباطل والضلال.
وحين يعيش في مجتمعات إسلامية في أصلها، وقد شذّت عن الإسلام في بعض الجوانب، بسبب الجهل، أو الفتنة بالغرب، أو تسلط المارقين، حتى أصبح ترك الصلاة، وفطر رمضان، والتعامل بالربا، والتبرج... من الأمور المألوفة، وربما صار بعض المعروف منكراً، وبعض المنكر معروفاً... فعليه أن يشعر بأن ثمة فارقاً بينه وبين المنحرفين، فارقاً في الفهم والإدراك، وفارقاً في السلوك والالتزام، وأن شرع الإسلام هو المقياس، وأنه ما دام ملتزماً بالإسلام فهو على الحق مهما بدا ضعيفاً طريداً.. أو مسجوناً. ولا تختلط قيم الإسلام في نفسه بقيم الجاهلية التي عمّت وطمّت، ولا يتميع سلوكه في تيار الفساد، ويظل يشعر أنه "شيء" وأن الفاسدين "شيء" آخر، وأن عليه واجب التمسك بالحق والرشاد أولاً، وواجب دعوة الآخرين إلى الحق والرشاد ثانياً، لأنه يحبّ لهم الخير والهداية، ويحزن على تخبّطهم في الظلمات، وتلوثهم بالوحل والأذى.
ولكن بعض المُغالين من الإسلاميين تجاوزوا هذا الفهم الحصيف إلى فهم معكوس، وحَسِبوا أن التميز والمفاصلة والعزلة الشعورية... تعني مقاطعة الناس، والبُعد عنهم، وكراهيتهم ومحاربتهم... قبل أن يفهموا أوضاعهم أفراداً، وحقيقة المجتمع حكومةً ومؤسسات، وقبل أن يفرقوا بين ما هو كفر بواح ورِدّة... وبين ما هو لوثة جاهلية خالطت الفكر أو السلوك وجعلت أصحابها ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً... وقبل أن يدْعوا الناس إلى الإسلام الحق، ويوضّحوا لهم حقيقته وحقيقة ما هم فيه...
إنّ هذا الغُلوّ جعل هؤلاء الإسلاميين ينفرون من مجتمعاتهم، ويحُسّون بالكراهية نحوها، ثم احتقارها والتعالي عليها... وكأنهم لم يقرؤوا ما في الكتاب والسنّة من بيان لطبيعة العلاقة بين المسلم الملتزم والمسلم المقصّر أو المنحرف... بل غير المسلم أيضاً:
(لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عنتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم). {سورة التوبة: 128}.
(فلعلّك باخعٌ نفسَك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسَفاً). {سورة الكهف: 6}.
"المؤمن الذي يخالط الناس ويتحمّل أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يتحمل أذاهم". [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
"اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". [من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقومه بعد أن آذوه وجاءه ملك الجبال ينتظر أمره فيهم].
ومن الناحية التطبيقية، فإن المقاطعة تُنزل الضرر بالطرف الأضعف مادياً، والأقل عدداً. فحين تقاطع ثلّةٌ قليلة، مهما تكن كريمة، مجتمعاً كاملاً فإنها هي التي تتضرّر، تتضرّر في دينها حيث تضع حاجزاً بينها وبين الآخرين، وتتضرّر في دنياها حيث تسدّ منافذ العيش والنشاط الاجتماعي على نفسها. وكل مسلم يعلم، ويألم، عندما يطالع في السيرة النبوية مقاطعة قريش لبني هاشم ولمن آمن بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في شِعب أبي طالب.
مَن الذي قاسى وتألّم؟ ومَن الذي فَرض الحصار؟.
إن الفئة القليلة لا تفرض على نفسها الحصار، وإن الفئة الهادية لا تضع بينها وبين الناس أستاراً وحُجُباً من التعالي والكراهية والاحتقار... لأنها بذلك تصبح مكروهة موفوضة.
وإن الذين يزعمون التمسك بفكر سيّد، رحمه الله، مطالَبون بفهمه على حقيقته، لا وفق أهوائهم، أو ردود فعلهم على ما يَلْقَون من ظلم واضطهاد وقهر.
وسوم: العدد 1051