«طوفان الأقصى»: حروب الانحياز وترجيع أصداء الأكاذيب

ليس منطقيا، ولا يصح وقائعيا وتاريخيا في الأساس، أن يُفاجأ امرؤ عاقل بطبائع الانحياز الغربي، الأمريكي أولا والأوروبي عموما وتاليا، لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي في حروب الإبادة والتدمير والعقاب الجماعي التي تشنها حكومة بنيامين نتنياهو، وهي الآن حكومة طوارئ «وطنية» ضد قطاع غزة؛ في سياق الردود على عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها فصائل المقاومة المسلحة ضد مواقع عسكرية إسرائيلية ومستوطنات وكيبوتزات في عمق ما يُسمى بـ«غلاف غزة».

لا جديد، استطرادا، في أن تنطوي تلك الطبائع على تسيير حاملات الطائرات، الأحدث تطورا والأعلى قدرة على التدمير؛ أو إرسال المعدات والذخائر العسكرية، صحبة وزراء الخارجية؛ أو الذهاب إلى درجة منع التظاهرات السلمية التي يكفلها الدستور في بلدان أوروبية ديمقراطية، وعدم التردد في حظر رفع العلم الفلسطيني، مقابل السماح بكل وأي مظهر لتأييد دولة الاحتلال، ورشق نجمة داود على برج إيفل في قلب العاصمة الفرنسية باريس. غير مفاجئ، بل هو متكرر مستعاد، أن تُلصق تهمة العداء للسامية كلما ارتفع صوت منتقد لسياسات دولة الاحتلال وممارسات جنودها ومستوطنيها، حتى حين يشكو البعض من بصاق المستوطنين على حجاج مسيحيين أجانب يحملون صليب يسوع، في شوارع مدينة القدس العتيقة.

ثمة، ضمن هذه الطبائع وسواها، ما يكتسب صفة الطارئ غير المسبوق، الفاقع والسافر والسفيه والفاجر، إذْ يصدر عن جهات يُفترض أنها ليست عليمة وممتازة الاطلاع فقط، بل تقع أقوالها في منزلة بالغة الخطورة من حيث الوقع والتأثير والتصديق ونطاقات الاستقبال؛ كما في تصديق الرئيس الأمريكي جو بايدن على أكذوبة صحافية مراسلة لقناة إسرائيلية، حول قيام مقاتلي «حماس» بقطع رؤوس الأطفال بعد أخذهم رهائن. الفاضح أكثر أن البيت الأبيض تراجع عن اعتناق تلك الرواية الكاذبة، ولكن ليس على مستوى إصدار اعتذار رسمي أو تكذيب أو سحب لتلك الأقوال؛ بل، ببساطة هي ذروة في الوقاحة، عن طريق تسريب معلومة إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية وشبكة «سي إن إن» الإخبارية، تنقل عن «مسؤول في الإدارة» الاعتراف بأن بايدن أو أي من مساعديه «لم يروا هذه الصور».

مستوى آخر من الانحياز، أقل وطأة وإنْ كان لا يقل خطورة كما أنه ليس طارئا تماما، جدير بإشارة خاصة لأنه يشمل مئات من رؤساء الكليات والجامعات الأمريكية، ممن اعتادوا استنكار جهود بعض الأكاديميين البريطانيين لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، الذين لم ينبسوا ببنت شفة في استنكار القصف الإسرائيلي الهمجي الذي استهدف الجامعة الإسلامية في غزة، وسوّى مبانيها بالأرض تقريبا. ورغم أنها تظل رمزا ثقافيا وتربويا حمساويا (أسستها الحركة سنة 1978، ولكن بموافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلية… للمفارقة) فإنها في نهاية المطاف جامعة محسوبة ضمن جامعات الأرض؛ بل هي مؤسسة التعليم العالي الأهم في غزة؛ سيما حين يستذكر المرء حقيقة أن الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على القطاع منذ 16 سنة يمنع طلاب غزة من الدراسة في الضفة الغربية أو الخارج، ولهذا يدرس فيها أكثر من 20 ألف طالب، تشكل النساء نسبة 60٪ منهم، وتضم كليات متنوعة ليست جميعها في اختصاصات الشريعة والفقه الإسلامي، فثمة كليات للطب والهندسة والعلوم وتكنولوجيا المعلومات والتجارة والتمريض.

غير مفاجئ، بل هو متكرر مستعاد، أن تُلصق تهمة العداء للسامية كلما ارتفع صوت منتقد لسياسات دولة الاحتلال وممارسات جنودها ومستوطنيها

والمرء، بصدد أكذوبة قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين الرهائن، يستذكر الصحافي الإرلندي اليساري ألكسندر كوبرن (1941 ـ 2012) الذي كان، خلال التحضيرات الأمريكية لاجتياح العراق في إطار عملية «عاصفة الصحراء» أول من امتلك شجاعة التشكيك في صحة حكاية حاضنات الأطفال الرضع الكويتيين، حين كان السواد الأعظم (في الغرب والشرق على حد سواء) يذرف الدموع السخية توجعا من ذلك السلوك «البربري» للقوات العراقية الغازية. ولقد اتضح سريعا أن الحكاية كانت مفبركة تماما، وأن مؤسسة عملاقة مختصة بالعلاقات العامة قبضت مبلغا خياليا لإعداد السيناريو، الكفيل بكم أفواه الذين كانوا ينوون الاعتراض على الحرب. ولقد توفر صحافي إسرائيلي واحد على الأقل، هو أورين زيف، غرد على منصة X بأنه كان في عداد الفريق الصحافي ذاته التي تواجدت فيه الصحافية الإسرائيلية صاحبة المزاعم حول قطع رؤوس الأطفال، وأنه لم يشاهد شيئا من هذا القبيل، وشدد على أن الجنود الذي تحدث معهم شخصيا في المستوطنة المعنية لم يذكروا شيئا عن هذه المزاعم.

مستوى ثالث عكسته تغطيات يومية «ليبيراسيون» الفرنسية، المحسوبة تاريخيا على اليسار، والتي اختارت أن تشغل غلافها صورٌ قديمة ملونة لثلاث فتيات متفاوتات الأعمار من أسرة واحدة، مع مانشيت يقول: «رهائن حماس»؛ حيث الرسالة المبطنة خلف هذا الخيار لا تقتصر على استدرار تعاطف، مشروع بالطبع، مع الفتيات والرهائن المدنيين عموما، بل تتوخى الانخراط في التحشيد الإعلامي الفرنسي لصالح دولة الاحتلال، إذْ أن التغيب عن الركب يستوجب الأثمان الباهظة، متعددة الأصناف والأطراف. وأما في مواد العدد الداخلية، فثمة تقارير متعاقبة عن «الجرائم بحق الإنسانية» التي ارتكبها الفلسطينيون خلال المواجهات؛ وتقرير يتيم عن عمليات القصف الإسرائيلية، يتخذ منحى الإخبار من دون حكم أخلاقي أو إنساني؛ وتغطية للارتباك الذي ساد أروقة الاتحاد الأوروبي بعد إعلان وقف المساعدات للفلسطينيين، ثم التراجع عنه؛ وتحليل (هذه المرة!) لعزلة مجموعة «فرنسا الأبية» داخل الجمعية الوطنية وتحالف اليسار، بسبب رفضها اعتبار «حماس» منظمة إرهابية؛ وهكذا…

في صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية يعثر المرء على رأي من جدعون ليفي، المعروف بنقده لغالبية سياسات الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ورأي آخر، له طابع الاختلاف أيضا، من المعلق المخضرم تزفي برعيل؛ أو حتى افتتاحية للصحيفة، تطالب حكومة الطوارئ بطرد إيتمار بن غفير من صفوفها. لكن الأكثر شراسة، والأعلى صوتا في إعلاء الأكاذيب والتحريض من أجل محو قطاع غزة عن الخريطة، هم أمثال إيتان نيشين، الذي يأخذ على «اليساريين» أنهم لا يقيمون مقارنة وثيقة بين «حماس» و«تنظيم الدولة الإسلامية». وهكذا، في الصحيفة ذاتها التي تفاخر بأنها ليبرالية أو تمثل يسار الوسط، يكتب يويل ماركوس: «لن أخفي ابتهاجي لمشاهد اللهيب والدخان يتصاعد من غزة. لقد آن الأوان لكي ترتعش نفوسهم ذعرا فيفهموا أن استفزازاتهم الدموية لها ثمنها».

ولأن حبل الأكاذيب قصير عادة طبقا للحكمة العتيقة، وأنه يمكن أن يتكشف عن قِصَر أشد افتضاحا بأيدي المتورطين في الكذب أنفسهم؛ فقد خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على أنصاره بتصريح يقول فيه إن الاستخبارات الإسرائيلية لم تشترك في عملية اغتيال قاسم سليماني، وأن نتنياهو أراد تجيير العملية لرصيده الشخصي وهو أمر يدعو إلى الإحباط. ليس هذا هو الوقت المناسب لتكذيب دولة الاحتلال، يرد عضو الكنيست عن حزب الليكود الذي يشغل أيضا منصب وزير الاتصالات بالنيابة، و«من العار على شخص [مثل ترامب] أن يشارك في بروباغندا الترويج لأشياء تؤذي الروح المعنوية لمقاتلي جيش الدفاع الإسرائيلي وروح سكان إسرائيل». في عبارة أخرى، ممنوع ألا تصادق على أكاذيب دولة الاحتلال، حتى إذا كان المكذب هو ناقل السفارة الأمريكية إلى القدس والضاغط لإلحاق بعض العربان بقاطرات التطبيع.

مستجدات إذن، وطوارئ جديرة بالإشارة، ليس أكثر؛ إذْ أن تاريخ 75 سنة من الانحياز الغربي للكيان الصهيوني، حتى ودولة الاحتلال تحث الخطى نحو نظام الأبارتيد الأشنع عالميا اليوم، ليس سوى تحصيل حاصل وترجيع أصداء.

وسوم: العدد 1054