حين سقطت المرجعية الأخلاقية العالمية في غزة
يخال لهم أنهم استثناء ونحن لسنا بشرا، ويظنون أن أطفالنا ونساءنا حيوانات بشرية، هكذا قالوا في الحرب الدائرة على غزة اليوم، حيث يعيش مليونان وثلاثمئة ألف فلسطيني من دون أية مقومات للحياة، لاسيما في ظل قصف جوي وبري وبحري وحصار شامل، يشمل قطع المياه والكهرباء والطعام والدواء، ثم يقولون إن الهدف من وراء ذلك هو اجتثاث حركة حماس من قطاع غزة، فهل يتحقق ذلك؟
واهم من يظن أن ذلك ممكن، فبالقوة يمكنهم تدمير قطاع غزة وإزالته من الوجود، لكنهم غير قادرين على القضاء على المقاومة الفلسطينية، خاصة بعد عملية 7 أكتوبر الأخيرة. والسبب في ذلك أن المقاومة أعادت فكرة عدم قبول الدونية. فعلى مدى كل جولات الصراع العربي الإسرائيلي، كانت هناك محاولات إسرائيلية ودولية على إجبار الفلسطينيين على الشعور بالدونية، ومعنى الدونية هنا هي أن يستنكر الغرب كله والولايات المتحدة سقوط إسرائيلي واحد، ويغض الطرف عن سقوط آلاف الضحايا الفلسطينيين. اليوم هناك أكثر من 3000 فلسطيني ضحية، بينهم أطفال ونساء وشيوخ لا يتحدث عنهم أحد، وهذا الموقف اللاأخلاقي سوف يؤدي إلى ارتداد عن كل ما كانوا يظنون أنه قد تحقق، بعد كل مبادرات السلام التي عُقدت والتطبيع الذي تحقق.
الموقف اللاأخلاقي العالمي سوف يؤدي إلى ارتداد عن كل ما يظنون أنه قد تحقق، بعد كل مبادرات السلام التي عُقدت والتطبيع الذي تحقق
كل الذين كانوا يقفون في المنطقة الوسطى ذهبوا اليوم إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وكل الذين كانوا يتحدثون عن عنفها سابقا يجدونها وحيدة، وكل من هو غربي الانتماء والهوى مع إسرائيل. وهذا يعني أننا نتكلم عن عالم منقسم، عالم يرى الأمور بعين واحدة، ومن زاوية منحرفة تماما، وإن كل من يتحدث عن قواعد دولية تحكم هذا العالم فهو واهم جدا، فلا قواعد دولية تتم أبدا، ولا الذخيرة والأصول المادية والمعنوية التي تمنحها الولايات المتحدة والغرب إلى إسرائيل هي من ضمن القواعد الدولية.. أين القواعد الدولية، حيث يتم استخدام ذخائر الأعماق في حرب المدن؟ وأين القواعد الدولية التي تسمح باستخدام أسلحة فتاكة تستخدم ضد جيوش يتم استخدامها ضد مدنيين؟ لقد فقد الكثير من الشعوب ذلك اليقين الذي كانوا يعتصمون به، بأن العدالة يمكن أن تتحقق في هذا العالم، بل إنهم يتحدثون اليوم عن غرب سقط أخلاقيا، والخطورة في هذا السقوط الأخلاقي هو أن الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر والغرب وقادته، قد ركلوا كل ما كانوا يدعّون به من قيم وحقوق إنسان، وباتوا يتصرفون وكأنّ إشهار الدعم للمجزرة القائمة في غزة هو إشهار للفضيلة. والمفارقة أنه حتى الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي كان من المفروض، طالما أن بلده قد تعرض إلى اجتياح وهو يدعي المقاومة، كان على الأقل أن يكون ملتزما بقدر ما من الحياد في هذه الأزمة، وبذلك لن يتمكن كل هؤلاء من مواجهة العالم بعد اليوم، مقابل الثمن الإنساني الفادح الحاصل في غزة، والمرشح للزيادة. كما أن السلم والأمن العالميين لن يكونا في مأمن بعد اليوم، بل إن هذه الحرب ستتدحرج لغاية ما تتحول إلى مواجهة إقليمية. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتعظ عندما ذهبت للثأر من شعب أفغانستان بسبب أحداث 11 سبتمبر، التي لم يكن له أي دور فيها، ثم ذهبت للثأر من الشعب العراقي، الذي هو الآخر لم يكن له أي دور فيها. وها هي اليوم جاءت مع حلفائها كي يثأروا من أهلنا في فلسطين، لكن على العالم أجمع أن يعلم أن المقاومين الفلسطينيين أقوى بمراحل من مقاتلي طالبان، إن الادعاءات التي يرددها الصهاينة، ومن خلفهم الغرب اللئيم، من أنهم غير مسؤولين عن وقوع ضحايا مدنيين في غزة، وأن المسؤول عن ذلك هم المقاتلون الفلسطينيون، الذين هاجموا المحتفلين بالمهرجان الموسيقي في إحدى المستوطنات، وقطعوا رؤوس الأطفال وحرقوهم، وتعرضوا للنساء في الملاجئ، ولهذا السبب تسعى إسرائيل إلى استهداف المقاتلين الفلسطينيين لأنهم تسببوا بكل ذلك بحق المدنيين الإسرائيليين، كلها تبريرات سخيفة. فما ذنب الأطفال الرُضّع الذين ليس لديهم قرار في تأييد أو عدم تأييد المقاومة الفلسطينية؟ ما الذنب الذي اقترفوه كي يُقتّلوا وتُقطّع أشلاؤهم؟ أليس إقرار الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الذي يدعي التحضّر بهذا السلوك، يعتبر إقرارا خطيرا على الصعيد الدولي؟ يقول مستشار الرئيس الأسبق كلينتون في تبريره لقتل النساء والأطفال في القصف القائم على غزة، بأن زوجات المقاتلين من حماس لم يتخذن قرار هجر أزواجهن بعد أن عرفن أنهم إرهابيون، وبذلك يحق قتلهن لأنهن يدعمن أزواجهن! لكنه وفي غمرة الحقد الأسود الطاغي على عقول وبصائر ساسة الغرب، ينسون أن الإقرار بهذا المنطق الرث والمعطوب معناه، أن قيام المقاتلين الفلسطينيين بقتل المدنيين الإسرائيليين بدعوى أنهم زوجات وأبناء جنود وضباط صهاينة، سيكون مُبررا أيضا.
إن الرواية الكاذبة التي يملأ نتنياهو الكاذب فمه بها، بأن هنالك اغتصابا للأطفال والفتيات وقطع رؤوس، كلها من نسج الخيال، وأنها محاولة لربط صورة وهمية آنية بصورة المحرقة السالفة، لغرض استدرار العطف العالمي والتلاعب بغرائز الرأي العام الدولي، بأنه ما زال هنالك شعب يهودي يتعرض للاضطهاد والكراهية والإبادة، وإذا كان وقوع ضحايا من المدنيين من كلا الطرفين فكرة مرفوضة إطلاقا، فإن الحقيقة تقول بأن كل الإسرائيليين المدنيين، نساء ورجالا هم مُجندون في قوة الاحتياط. بالتالي هم كلهم جيش يقاتل أهلنا في فلسطين، كما أنهم يحتلون أرضا ليست ملكهم. نعم لقد قتلت حماس بالفعل جنودا صهاينة يرتدون البزة العسكرية، ونشرت الفيديوهات التي توثق ذلك، لكنها لم تقتل أو تغتصب أطفالا، بل إن هنالك فيديوهات من الجانب الإسرائيلي تتحدث عن امرأة تقول، إن مقاتلي حماس قالوا لها أنت وأطفالك في أمان لأننا مسلمون ثم غادروا وتركوها. كما أنهم أطلقوا سراح إحداهن مع أطفالها بشكل علني، فأين الدليل الذي يُبرهن عما يتحدثون به؟ لربما نسي الصهاينة جرائمهم بحق الأطفال في فلسطين على مدى أكثر من سبعة عقود. مثلما نسوا جريمتهم في قصف مدرسة بحر البقر في مصر وقتلوا جميع الأطفال فيها. وهل نسي بايدن وأركان البيت الأبيض والبيت الغربي مقتل آلاف الأطفال العراقيين والأفغان عندما غزوا هذين البلدين؟ إن الواقع يقول إن ما نشهده اليوم، وما لا بد من الإقرار به، هو أننا أمام غياب المرجعية العالمية، سواء السياسية منها ذات الرؤية العقلانية وكذلك الأخلاقية. وما نشهده في غزة هو مجزرة وجريمة حرب، وأن العالم الغربي تحديدا يتعامل مع ما تقوم به إسرائيل من جرائم، وكأنه حق شرعي لها. وإذا كانوا يظنون أن الاحتفال بعدوانيتهم مقبلة، فهم واهمون لأنهم لا يعرفون تكاليف ذلك. فالمقاومون الأوفياء يضعون رهاناتهم على الشعوب.. ودراسة التاريخ هي بوصلتهم للتنقل إلى المستقبل، وإذا كان التاريخ يُروى على أنه قصة رجال عظماء، فهو مازال كذلك في فلسطين.
وسوم: العدد 1054