الله أكبر…
من أين يستمد الغزِّيون كل هذه القوة وهذه الإرادة!
لو ألقيت هذه الكميات من المتفجِّرات على باريس لا سمح الله، لاستسلمت خلال أسبوعين وربّما أقل.
إنها التربية في بناء الإنسان المسلِّم أمره لله.
طفل غزِّي يبدو في العاشرة من عمره يستقبل ماء المطر المنهمر من الميزاب القادم من سطح بيت ما، ليملأ برميلاً متوسط الحجم من البلاستيك.
يقول الطّفل بفرحٍ: “الحمد لله يا جماعة أنّ ألله سقانا من ماء المطر، الله عرف أننا نعاني ونزّل لنا مَيَّة من عنده، مَيّة حلوة يا جماعة”.
كانت ابتسامته تعكس فرحته الكبيرة بالماء، وخصوصاً وهو يؤكد أن “الميَّة حلوة يا جماعة”، وهذا يعني أنَّه صالح للشُّرب وللطهو والاستحمام والوضوء.
ظهر سعيداً بالماء وقد بلّل المطرُ شعرَه وملابسَه، وأيُّ سعادة أكبر لمحاصرٍ في قطاع غزَّة من الحصول على الماء العذب، الذي صار أغلى من الذّهب.
لا نتحدث هنا عن ماءٍ زلال، فقد يكون المطر في غزة ملوّثاً بغبار البارود والفوسفور وإسمنت العمارات المهدّمة ودخان الآليات المحترقة، ولكن يكفي أن يكون خالياً من الملوحة، ليستحق هذا الاحتفاء، لقد أرسل اللهُ الماء الذي عجز المجتمع الدولي وقراراته أن يدخلوه إلى قطاع غزة، ليصبح قصفُ الطيران أمراً ثانوياً مقارنة بانقطاع الماء العذب.
اللهُ أكبر، هو الحاضر الأكبرُ في هذه الحرب، ذِكرُه على كلِّ لسان وفي كل قلب، لا تمرُّ دقيقة واحدة من غير ذكره ملايين المرّات، الله أكبر عند سماع هدير فخر الصناعات الحربية الأمريكية، والله أكبر عند سماع انفجارات القنابل العملاقة وتحويل الليل إلى نهار وارتفاع سحب النار والدّخان والأجساد المحترقة، وهو حاضر إذا نجا أحدهم من الموت أو إذا استشهد.
إنه حاضرٌ في صدور الكبار والصِّغار، المدنيُّون والمقاتلون، يهرعون بعد الغارة للبحثِ عن ناجين، بعشرات ومئات الأيدي العزلاء لإزاحة مئات الأطنان من الإسمنت، لانتشال جثامين الشُّهداء أو العثور بينهم على ناجٍين.
تبلغ حصّة الفرد الواحد في قطاع غزّة من المتفجرات عشرات أضعاف حصَّته من الماء والطعام، وهذا لا يواجه إلا بكلمة واحدة “الله أكبر، لنا الله، والحمد لله، وحسبنا الله ونعم الوكيل”.
إلى جانب اللياقة الجسدية والتدريب، يهتم المقاتل بأن لا يخونه لسانُه بالقول في اللحظة المناسبة “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّداً رسول الله”، فما يقلق الغزّي هو أن يأخذه الموتُ على حين غرة، قبل أن يتلو الشهادتين.
تقول إحدى الأمهات التي أخبروها باستشهاد ابنها: “الحمد لله شهيد، قلبي مطمئن بأنّه استشهد مُقبلاً غير مدبر”.
من فقدوا بيوتهم وعدداً من أفراد أسرهم يردّون بـ “حسبي الله ونعم الوكيل”، يكرّرونها مرات، فهي الأوكسجين الذي يحول دون اختناقهم، كلمات تريحهم وتنقذهم من هول الصدمة، ذِكر الله هو الملجأ الوحيد الذي يمكن له أن يبقي الإنسان في مثل هذه الحالات في كامل وعيه، فهو يتكئ على القوّة الأعظم، وهي أكبر من هذه القوّة العمياء الغاشمة التي تقتل وتدمِّر وتحرق، وهو مقتنع بأن ليس عليه سوى الصّبر كما أمره الله، وبأن الله سوف يعوّضه داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وبأنّه يُمهل ولا يهمل، وهو على قناعة بأن حساباتنا نحن البشر لا تدرِكُ إرادة الله، وأنَّ الخير قد يأتي بالذات مما يبدو أنَّه شرٌّ مطلقٌ، ولهذا ليس علينا سوى الاستسلام لمشيئته.
يقول أحدهم “كلُّهم في سبيل الله، أولادي وبيتي والحمد لله على أنّهم شهداء، وأنا أريد أن أكون معهم، أن ألحق بهم بسرعة”، هذه كلمات تكرّرت آلاف المرات.
ويقول آخر: “ما بكم يا جماعة! ابني شهيد، سيشفع لسبعين منكم”، ويقول آخر: “نيّاله لقد فاز بالجنة”.
الحمد لله، يقولونها وهم يخرجون من تحت الرُّكام أو وهم جالسون فوقه، أو جرحى ينزفون.
قد لا يبدو الأمر غريبًا إلى بعضنا كعربٍ ومسلمين، فهذه تربية وقناعات نعرفها، ورغم ذلك، فإن الطمأنينة أو الاستسلام إلى الله وإرادته تبدو استثنائية في غزّة، فهي صادرة عن قلوب مطمئنة وإيمان عميق مزروع فيها مع حليب الرّضاعة.
كذلك الأمر بالنسبة للمقاتلين في الميدان، كما يظهرون في الأفلام المتداولة في وسائل الإعلام، فهم يذكرون اسم الله على القذيفة قبل إرسالها إلى الهدف، والمقاتل مهما كان محترفاً في الرَّمي، فإنه يستعين بالله ويسلم له الأمر “وما رميتَ إذ رميت ولكن الله رمى”، ويتناقل بعضهم قصصاً عن قوى غير مرئية تقاتل إلى جانب المقاومين.
يعدو أحدهم إلى الدبابة ربما الأكثر تحصيناً في العالم، وهو يتلو “وجعلنا من بين أيديهم سدَّا ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون”.
إنَّه على يقين مطلق بأنَّ تلاوة هذه الآية سوف تحميه وأنه سوف يحقَّق هدفه، أو أن يستشهد دونه.
هذه العقائدية مذهلة، حقيقة، وهي لافتة أكثر للغارقين في الحياة المادية، كثيرون من الأجانب عبّروا في وسائل التواصل عن صعوبة استيعابهم لردود فعل المصابين بمثل هذه الأرزاء، بمثل هذا التسليم الكامل لإرادة الله، وبمثل هذه القناعة، بل والتمسك بها أكثر، وفي كثير من الحالات مع ابتسامة حزينة رغم الفجيعة، ومنهم من أثار هذا فضوله للتعرُّف على هذه العقيدة التي تصبِّر هؤلاء الناس.
لا يعرض المسؤولون في إسرائيل ردود فعل الفلسطينيين المصابين بأموالهم وأنفسهم للشَّعب الإسرائيلي، لأنَّ هذا التّسليم بأمر الله مذهل.
هذا لا يعني أن الغزيين لا يتألمون، بل يألمون ويبكون ويحزنون لفقدان أحبَّتهم وأموالهم، ولكنّهم يدركون أن الحزن والعويل لن يفيد بشيء، وأن التسليم بقضاء الله هو دواء وشفاء يخفِّف من هول المصائب، إضافة إلى أنّهم يعرفون بأنّ عدوَّهم يتألم كذلك.
فقد أخبرتهم عقيدتهم بذلك “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسَسْكُم قَرحٌ فقد مسَّ القوم قرحٌ مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذّ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين”، صدق الله العظيم.
طبيعي أن يكون معارضون لحركة حماس فكريّاً وأيديولوجياً في قطاع غزة وغيره، وقد تكون نسبة المعارضين مرتفعة، إلاّ أنَّ ردود الفعل التلقائية بعد كل غارة، تدين الاحتلال، هذا ما عبّر عنه مئات وآلاف ممن فقدوا بيوتهم وأحباءهم، فهم يدركون أنّ الهدف الأساسي لهذه الحرب ليس هدم حكم حماس ولا غيرها من التنظيمات المسلّحة فقط، بل إنّ هناك من يدعو إلى ترحيلهم من وطنهم علانية، ويعمل على تطبيق حلمه هذا، مستغِّلاً ما حدث في السَّابع من أكتوبر/تشرين الأول لتنفيذ مشروع جاهز، بل إنّه وفي قمّة الوقاحة الفاشية، يعتبر أن ترحيلهم إلى بلدان أوروبية عملٌ إنساني ولمصلحتهم، وإلا فمصيرهم الموت، فأيُّ ملجأ سوى الله.
وسوم: العدد 1058