يهوشع بن نون في غزّة
جاكلين روز، الناقدة والأكاديمية البريطانية اللامعة، سارت في التظاهرة الكبرى التي شهدتها مدينة لندن تضامناً مع الفلسطينيين ورُفعت خلالها مطالب وقف إطلاق النار وتصادفت مع ذكرى السنوية ليوم الهدنة وانتهاء الحرب العالمية الأولى. كذلك شاركت في أنشطة أخرى تضامنية مع قطاع غزّة، كان أبرزها لقاء “مهرجان الأدب الفلسطيني PalFest في لندن أيضاً، كما وقّعت على بيانات أخرى صدرت عن تجمّعات مثل “فنانون مع فلسطين” و”أصوات يهودية مستقلة” وسواهما. هي، إلى ذلك، تشتغل منذ سنوات على الأسس النفسية للخطابات النسوية وما بعد الاستعمارية في الرواية والشعر؛ وأصدرت عدداً من الأعمال المتميزة، بينها “حالة بيتر بان، أو استحالة قصص الأطفال”، و”الجنسانية في حقل الرؤيا”، و”سُكنى سيلفيا بلاث”.
الإشارة إليها هنا على نحو خاصّ يتصل بجرائم الحرب التي تواصل دولة الاحتلال ارتكابها في القطاع، تنبثق أوّلاً من حقيقة أنّ روز يهودية أيضاً، وتنتمي إلى صفّ الأقلية الأكاديمية الأنغلو-ساكسونية التي تعترف بمقدار عالٍ وجوهري ومبدئي من حقوق الشعب الفلسطيني؛ إلى جانب نقد معمّق لمفهوم “الدولة” الإسرائيلية، بالمعاني الحقوقية والتاريخية والسياسية والسيكولوجية والأسطورية. وفي هذه الأيام التي تكثر فيها الإحالات الإسرائيلية إلى التوراة، على لسان بنيامين نتنياهو شخصياً (من سفر التثنية: “أذكر ما فعله بك عماليق…”؛ ومن كتاب صموئيل: “اذهبْ واضرب العماليق وحرموا كل ما لهم ولا تعفوا عنهم”؛ وتعداد “نسل الأبطال” أمثال يهوشع بن نون، الملك داود، يهودا المكابي، بار كوخبا…)؛ تعود إلى الذهن صيغة الفانتازيا كما اقترحتها روز بوصفها وجهة مرَضية، ولعلها قصوى أيضاً، لهوس التهويد الذي ينخرط فيه ائتلاف نتنياهو صحبة الأحزاب الدينية المتطرفة والفاشية.
وهذا تفصيل يدخل في صلب إشكالية يثيرها كتابها “دول الفانتازيا” الذي ينهض على سؤال نادر، ولكنه مشروع وشجاع: ما دور الفانتازيا في قيام الأمم وتأسيس الدول؟ هل ينبثق الاعتراض الإسرائيلي الجوهري على الدولة الفلسطينية من حقيقة خضوع الوجدان الجمعي اليهودي لفانتازيا الدولة اليهودية بالذات؟ وكيف نستطيع التماس الدليل على ذلك في كتابات أناس مثل الإسرائيليين يشعياهو ليبوفيتش (الفيلسوف الذي ينكر فكرة الدولة اليهودية) وعاموس عوز (الأديب الذي لا ينكرها وقاتل دفاعاً عنها، ولكنه ينكر حقها في تحقيق “إسرائيل الكبرى” على قاعدة الاحتلال)؛ والعربيين ـ الإسرائيليين إميل حبيبي (الذي كتب بالعربية)، وأنطون شماس (الذي كتب بالعبرية)؟
حجة الكتاب المركزية هي التالية: “لا سبيل إلى فهم الهويات والأقدار السياسية دون وضع الفانتازيا في سياقها التام”؛ ولهذا ترى روز أنّ فانتازيا التوق إلى الانتماء كانت في أساس فكرة الدولة اليهودية، وأنها على درجة من الاستحكام والشيوع والتكلّس بحيث يصعب أن تتأقلم مع تبدّل معطيات الحياة. إسرائيل لا تستطيع منح الفلسطينيين الحق في إقامة دولة مستقلة، ليس بسبب خطر وشيك داهم أو بعيد قادم فحسب؛ بل لأنّ شحنة الفانتازيا المناهضة لهذه الإمكانية عالية في الوجدان اليهودي، بحيث يلوح أنّ الأسس العقلية والمعنوية والنفسية للدولة اليهودية سوف تنهار تماماً إذا قامت دولة فلسطينية واتخذت لاحقاً صيغة فانتازيا موازية للفانتازيا اليهودية.
وفي شرح المصطلحين اللذين يشكلان عنوان الكتاب، تقول روز إنّ الفانتازيا عموماً تظلّ ممارسة فردية، وأياً كان محتواها فإنها عاجزة عن إلحاق الأذى بالعالم الخارجي أو تبديله. الدولة من جانب آخر وضمن المصطلح الغربي تحديداً، تستثير عدداً من المعاني التي تنطلق من الوجود الخارجي العام (السياسي والحقوقي) إلى الوجود الداخلي الفردي (النفسي والشعوري)؛ فتصير حالة، واستعارة، وحلماً، واستيهاماً للواقع.
وتستعير روز مفردات “عادل” و”دائم” و”شامل”، وهي المفردات/ الكليشيهات التي تتكرر في أي حديث عن التسوية في الشرق الأوسط؛ لكي تتساءل: وأي معنى يتبقى في هذه كلها إذا كانت الفانتازيا قد حرّمت عبارة “حقوق الشعب الفلسطيني” طوال السنوات التي سبقت عام 1974، حين ألقى ياسر عرفات كلمته الشهيرة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة؟ أو كانت قد حظرت على الإسرائيليين استخدام صفة “الفلسطيني” حتى توقيع إعلان المبادئ عام 1993؟ إلى جانب أنّ روز تمضي أبعد من ذلك؛ فتناقش فكرة الحقّ بالمعنى الفلسفي والحقوقي والثقافي والتاريخي، وكيف خضعت مدلولاته لمؤثرات وضغوط الوثيقة الخفية بين الفانتازيا والدولة.
وقبل أيام، نشرت روز مقالة مميّزة في دورية مراجعات الكتب البريطانية الشهيرةLRB ، تناولت فيه مظاهر العنف في قطاع غزّة، وساجلت ــ بالجسارة الفكرية المألوفة لديها ــ عواقب الثنائيات التي تُقحم على مشهد الفظائع الإسرائيلية؛ من طراز وضع الأطفال الإسرائيليين ضحايا “طوفان الأقصى”، في موازاة (أو فوق وأسبق من)، الأطفال الفلسطينيين ضحايا القصف الإسرائيلي. لماذا، تتساءل روز، “أنّ الأسى على موت اليهود الإسرائيليين يتوجب أن ينسف الحجة القائلة بأنّ قمع الشعب الفلسطيني، على نحو مديد ومتزايد الشقاء، هو العامل الأهمّ خلف ما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر؟”.
سؤال برسم الفانتازيا، لا يخصّ أمثال نتنياهو أو يوآف غالانت أو بيني غانتس؛ فضلاً عن أيّ سياسي/ محارب إسرائيلي يأنس في ذاته إهاب يهوشع بن نون!
وسوم: العدد 1059