مستقبل غزة .. فلسطيني الهوية والقرار
في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) قال رئيس وزراء العدو نتن ياهو: "بعد الحرب لن تكون في غزه سلطة مدنية تعلم الاطفال كراهية اسرائيل"، وكان سبقه وزير الحرب الاسرائيلي غالانت الذي اعتبر ان هدف الحرب هو "إنشاء نظام امني جديد في قطاع غزه". هذان التصريحان يتماهيان مع مواقف الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية التي تحدثت بدورها عن واقع مختلف لمستقبل قطاع غزه بعد العدوان.
وبغض النظر عن تفاصيل المشاريع التي يدور النقاش بشأنها (إدارة دولية، ادارة مشتركة عربية دولية وغيرها من تصورات)، فمن الواضح انها تتجاوز أصحاب الشأن المعنيين بالامر وهم الشعب الفلسطيني، في تكرار لاخطاء سابقة ارتكبها المجتمع الدولي منذ عقود وساهمت في التأسيس لصراع ما زال متواصلا حتى الآن، حين تجاهلت الاسرة الدولية الشعب الفلسطيني ورغبته بالاستقلال، وتواطأ بعضها من الدول الاستعمارية مع الحركة الصهيونية، منذ ما قبل وعد بلفور وحتى صدور القرار 181 الذي صدر عن الامم المتحدة عام 1947 دون الوقوف على رأي اصحاب الارض واهلها، ليأتي القرار متعاكسا مع ارادة الشعب الفلسطيني ومتناقضا حتى مع ميثاق الامم المتحدة الذي يعطي الحق للشعوب المُستَعمَرة والمحتلة أرضها بتقرير مصيرها بدون تدخل خارجي..
نحو ثلاثة عقود مرت على محاولة الوصول الى تسوية متوازنة، تغير خلال هذه الفترة الكثير من الأمور، الا الموقف والامر الواقع الإسرائيلي الذي استفاد من عامل الوقت ليفرض في الميدان شروطه، وليتأكد ان التسوية السياسية كانت ملهاة للبعض واداة لتشريع السياسات الإسرائيلية وتكريس السيطرة على الأرض. وتكفي نظرة بسيطة على المتغيرات التي طرأت منذ انطلاق عملية التسوية مطلع تسعينات القرن الماضي، لنتيقن بان هناك استحالة في الوصول الى تسوية سياسية متوازنة تعيد الحقوق لاصحابها لغياب شروطها أولا والمرونة في تفسير مضمونها ثانيا وعدم جدية لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة في دفع اثمان تلك التسوية.
اتفاقيات أوسلو التي عول عليها البعض من الفلسطينيين والعرب الآمال والاوهام بإمكانية تحقيق ها انجاز ولو محدود أصبحت دون جدوى، فالسيطرة الأمنية في الضفة، ورغم وجود السلطة الفلسطينية، ما زالت بيد إسرائيل التي ازداد قبضتها، ووقائع الاستيطان وسرقة الأراضي تتسع اكثر، وممارسات المستوطنين واجرامهم لم تعد لها حدود، وأوضاع الفلسطينيين من النواحي الأمنية والاقتصادية أصبحت أسوأ مما كانت عليه حتى قبل العام 1993، والقوانين التي سنّها الكنيست الإسرائيلي منذ سنوات كرست حقيقة استحالة التعايش مع الاحتلال، نتيجة حالة التطرف الآخذة في الازدياد داخل المجتمع الإسرائيلي وتترجمها وصول قوى فاشية وعنصرية الى السلطة..
وبالرغم من كل ذلك، فما زالت الغالبية من دول العالم تتحدث عن مصطلح "حل الدولتين"، دون ان يكلف احد نفسه عناء شرح معنى هذا المصطلح او ان تتخذ إجراءات ومواقف وسياسات يمكن ان تقرب الشعب الفلسطيني من الوصول الى حقوقه الوطنية. بل على العكس كل المؤشرات تقول ان إسرائيل غير معنية بأي حل سياسي، مهما كان هزيلا ومتواضعا، وان المشروع الراهن لحكومة التطرف والفاشي في إسرائيل هو ضم الضفة الغربية، او أجزاء منها، وتحسينات اقتصادية للفلسطينيين، ومن لا يعجبه هذا الامر فهناك ثلاثة خيارات: فاما الاعتقال واما القتل او التهجير والترحيل الى الأردن ومصر..
من يتابع المواقف الرسمية الإسرائيلية والغربية بشأن "مستقبل قطاع غزه"، يخيل له ان ان إسرائيل قد فرضت سيطرتها على القطاع وامتلكت الميدان كي تعطي نفسها الحق في ان تطرح وتشترط وتفرض، لكن ما يحصل هو عكس ذلك. فالمقاومة الفلسطينية ما زالت متواجدة في ارضها وميدانها، وليس مؤكدا ان جيش الاحتلال قادر على التحكم بمسار المعركة، رغم توغلاته في بعض احياء القطاع، لأن من يتحدث بمشاريع سياسية يجب ان يمتلك الحد الأدنى من القدرة على فرض مشروعه، وهذا لم يحصل ولا يتوقع حصوله خلال فترة قريبة، بل ان إسرائيل وجيشها ذاهبون الى الغرق في رمال غزه نتيجة المجهول الذي ينتظرهم.
ان اي مشروع سياسي لا يراعي الاسباب الحقيقية للصراع، ولا يستجيب لحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة سيدة بعاصمتها القدس وضمان حق اللاجئين بالعودة من الطبيعي ان يكون مرفوضا من كل قوى الشعب الفلسطيني، وسببا اضافيا في انتاج المزيد من التصعيد والتوترات. وتجارب العقود الماضية تؤكد هذه الحقيقة.. لذلك فان اي حديث عن مشاريع انتقالية وعن تصورات وسيناريوهات ترسم من وراء ظهر الشعب الفلسطيني لن يتم النظر اليها الا كونها تغطية على جرائم الاحتلال وجزء لا يتجزأ من مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، ولن تجد من كافة التيارات الفلسطينية السياسية والشعبية الا الرفض والمقاومة..
لذلك وانطلاقا من الرفض المطلق لأي مشروع سياسي لا يلحظ وقف العدوان ووضع قادة العدو وداعميه امام المحاكم الدولية، فاننا نؤكد على القضايا التالية:
اولا) حق الشعب الفلسطيني في المقاومة طالما ان الاحتلال والاستيطان جاثمين فوق الارض الفلسطينية التي تعتبر، وفقا لعشرات القرارات الدولية اراض فلسطينية محتلة، والواجب القانوني والسياسي والانساني والاخلاقي يفرض على كل دول العالم دعم الشعب الفلسطيني وتمكينه من ممارسة حقوقه الوطنية وتقرير مصيره فوق ارضه بحرية بعيدا عن كل اشكال القهر والاستعمار.
ثانيا) إن مستقبل قطاع غزة هو شأن وطني فلسطيني، بما يعني رفض كل مشاريع الإنتداب أياً كانت جنسيته أو خلفيته او مراحله الانتقالية، التي يكون فيها للاحتلال الإسرائيلي دور مباشر أو غير مباشر. والقوى الوطنية الفلسطينية هي المعنية برسم مستقبل قطاع غزة وفقاً لاتفاقات المصالحة التي تم الوصول إليها عبر جولات الحوار الوطني. وهذا ما يجب ان يسقط ذريعة وضع القطاع تحت سقف ومرجعيات خارجية، ليست سوى الإسم المستعار لوضع القضية الوطنية تحت الوصاية الاستعمارية الخارجية، التي هي بمثابة الطريق الأقصر لتصفية الحقوقنا الوطنية الفلسطينية.
ثالثا) ان منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هي التي تمثل دولة فلسطين في اي نقاش يتعلق بحاضر ومستقبل قضيتنا الوطنية، وهي التي تشكل وفدها بحرية بعيدا عن اية املاءات او ضغوط خارجية، وهي معنية الآن بالعمل على تأكيد وتكريس مكانتها التمثيلية لقطاع غزه، ارضا وسكانا، وهي المعنية أيضا برفض كل مشروع ينتقص من حقها كونها المرجعية السياسية والقانونية للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الملاحظات والتباينات في نظرة البعض الى المنظمة وواقعها الراهن.
رابعا) ان النقاشات الدائرة حول مستقبل قطاع غزه تتناقض مع ابسط قيم وقواعد الديمقراطية التي تتشدق فيها الولايات المتحدة والدول الغربية. وطالما ان الاحتلال هو الركن الاساسي في المشكلة، فلا يمكن طرح اية مقاربة واقعية وقابلة للتطبيق الا انطلاقا من الاعتراف بأن الجذر الاساسي للصراع الذي يجرجر نفسه منذ العام 1948 هو الاحتلال واجرامه وعدوانه ومشاريعه السياسية التي لا تستند الى اي مسوغ قانوني او تاريخي، بل ان كافة مشاريعه كان وما زال منشأها الاساسي مصالح الدول الامبريالية أولا والاساطير والخرافات التاريخية للحركة الصهيونية ثانيا، والتي يشكل وجودها خطرا كبيرا ليس على فلسطين ومنطقة الشرق الاوسط فقط بل وعلى السلام العالمي..
خامسا) ان قطاع غزه هو جزء لا يتجزأ من الارض الفلسطينية الواحدة الموحدة التي لا تقبل اي شكل من اشكال التقسيم تحت اي مسمى سياسي او جغرافي او اداري او قانوني، واي مشروع يتجاوز هذه الحقيقة لن يجد من الشعب الفلسطيني بجميع تياراته الا الرفض والمقاومة بمختلف اشكالها.
سادسا) ليس صدفة ان تكون رغبة نتن ياهو بـ "سلطة مدنية لا تعلم الاطفال الفلسطينيين كراهية اسرائيل" منسجمة مع ما حملته صفقة القرن قبل خمسة اعوام لجهة التحريض على وكالة الغوث ومناهج التعليم في مدارسها بزعم انها تحرض على العنف والكراهية، وانسياق بعض الدول الغربية وراء دعايات كاذبة تقودها مؤسسات وجمعيات صهيونية. رغم ان المناهج الاسرائيلية تحفل بمئات النصوص التي لا تحرض على الكراهية فقط، بل تدعو الى قتل العرب بشكل صريح. وحين يرتكب المحتل والمستوطن والغازي كل اشكال القتل والاعتقال وسرقة اراضي الفلسطينيين وتمارس بحقهم العنصرية بأسوأ اشكالها، لا تجد بعض الدول الغربية سوى البيانات الانشائية لتقدمها في نقد إسرائيل وممارساتها، بما فيها ما يرتكبه المستوطنون الآن في الضفة الغربية منجرائم يومية.. بينما الانتماء لفلسطين الارض والقضية والهوية فهو من وجهة نظرهم تحريض على العنف والكراهية يجب مقاومته.
ان المحاكمات والمعتقلات الدولية لقادة الاحتلال الصهيوني وداعميه يجب ان تكون النتيجة الطبيعية للعدوان والقتل وحملات الابادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وليس منحهم مكافأة بتقرير مصير قطاع غزه، الذي كان وسيبقى جزءا لا يتجزءا من الارض الفلسطينية، وابناؤه سيظلون جزءا اصيلا من الشعب.. وبالتالي فان الاستجابة لرغبة الاحتلال الاسرائيلي في نقاش مشاريع سياسية تتعلق بمستقبل قطاع غزه من شأنها ان تكرر ذات الاخطاء التي ارتكبها المجتمع الدولي منذ اليوم الاول لتوقيع اتفاقية اوسلو لجهة ترك الاحتلال يفعل ما يريد في الضفة الغربية، غير آبه بصراخ الشعب الفلسطيني الذي لم يجد سوى التجاهل والعجز والتواطؤ من المجتمع الدولي ومن النظام الرسمي العربي.. فكان 7 تشرين الأول (اكتوبر) ردة فعل على كل ما فعله الاحتلال من ممارسات وسياسات كانت تقود بشكل تدريجي الى تصفية القضية الفلسطينية..
لقد اتسعت القناعات لدى كثيرين على المستوى الدولي بفشل كل الحلول الجزئية والأمنية للقضية الفلسطينية، وبأن الحل الجذري لحالة عدم الاستقرار في الشرق الاوسط نتيجة الاحتلال الإسرائيلي هو في حل القضية الفلسطينية، بموجب القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، التي تضمن للشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره بحرية وقيام دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على ارضها المحتلة بعدوان عام 1967 وعاصمتها القدس، بديلا للحلول الفاشلة بما في ذلك "إتفاق أوسلو" وما نتج عنه من مسارات كانت سببا في تفجر الاوضاع الراهنة..
وسوم: العدد 1059