غزّة: في الأدب كما الصيرفة
في التعريف الرسمي بها، كانت الجائزة الأدبية الكندية المعروفة باسم Giller Prize قد انطلقت في سنة 1994 بمبادرة من رجل الأعمال جاك روبينوفيش، تكريماً لزوجته المحررة الأدبية الراحلة دوريس غريللر؛ وهي تُمنح سنوياً لمؤلف (ة) رواية أو قصة قصيرة، أو لترجمتها إلى الإنكليزية، بقيمة 25,000 دولار كندي. وبين الفائزين بالجائزة يُشار إلى أمثال م. ج. فاسانجي ومارغريت أتوود وأليس مونرو ومايكل أونداتجي وعمر العقاد (مصري الأصل، عن روايته «يا له من فردوس غريب»، 2021).
ومنذ العام 2005 يتولى المصرف الكندي Scotiabank رعاية الجائزة، الأمر الذي خلق مشكلات أخلاقية بالنظر إلى الاستثمارات الواسعة للمصرف (نحو 500 مليون دولار أمريكي) في شركة الصناعات الحربية الإسرائيلية «إلبيت»، التي تزوّد جيش الاحتلال الإسرائيلي بمعدات عسكرية مختلفة. والوقائع لم تبدأ من كندا، بل من بريطانيا في صيف 2017 مع شركة UAV Engines في ستافوردشير، حين تجمهرت مجموعة من النشطاء وسدّت منافذ الدخول إلى مصانع الشركة، احتجاجاً على تعاقدها مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية، «إلبيت» خصوصاً، والمساهمة في إنتاج المسيّرات التي كانت تقصف قطاع غزّة.
لم يكن الأمر لافتاً على نحو خاصّ، ما خلا أنّ القضاء البريطاني أسقط الملاحقة عن أولئك النشطاء الموقوفين، وذلك لأنّ الشهود الذين طلب دفاع الشركة استدعاءهم امتنعوا عن المثول، بطلب من إدارة الـ UAV Engines كما تردّد؛ تفادياً لحرج الإدلاء بمعلومات حساسة عن ذلك التعاون الصناعي، ما قد يثير إشكاليات تخصّ جرائم الحرب. لافت، إضافة إلى هذا، أنها كانت المرّة الرابعة التي تشهد اضطرار الشركة إلى إسقاط الدعوى بعد سحب الشهود.
وفي كندا، مؤخراً وعلى وقع جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ نساء وأطفال وشيوخ قطاع غزّة، شهد حفل تسليم جائزة Giller Prize مظاهر احتجاج مختلفة ضدّ شراكة راعي الجائزة، فرُفعت لافتات مناهضة للمصرف الراعي، تقول إنّ «منظومات إلبيت تزوّد الجيش الإسرائيلي بمعدّات الإبادة الجماعية بحقّ الشعب الفلسطيني»، وتعالت هتافات بهذا المعنى، ما اضطرّ المنظمين إلى توقيف الاحتفال، على دفعتين. تتمة الواقعة أنّ نحو 1,800 كاتب وناشر وقّعوا رسالة مساندة للمحتجين، وطالبوا الشرطة الكندية بإسقاط التهم عنهم وإطلاق سراحهم، وكان في عداد الموقّعين الفائزة بالجائزة لهذا العام الروائية والشاعرة سارة برنستين، عن روايتها «دراسة بقصد الطاعة»، 2023؛ التي جاءت أيضاً ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية هذه السنة.
وأمّا التفصيل الأخصّ هنا، فهو أنّ برنستين يهودية الديانة، تنحدر أسرتها من أوروبا الشرقية، وجدّتها فقدت الكثير من أقربائها في معسكرات الهولوكوست؛ ولأنها لم تكن حاضرة شخصياً في الحفل وشاركت فيه عبر الفيديو، فقد صرّحت بالتالي على الفور: «أدعم الحقّ في الاحتجاج، وآمل أن تُسقط التهم عن المحتجين». كذلك أضافت توقيعها إلى نصّ شجاع يقول: «نطالب جميع مؤسساتنا الأدبية بإعلاء الصوت مقابل صمت حكوماتنا ومصادر نشر الأخبار. الدعوة إلى وقف إطلاق النار، والتعبير عن إدانة العقاب الجماعي للفلسطينيين، وجرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية، وممارسة الضغط على الحكومة الكندية لإيقاف التمويل العسكري والدعم الدبلوماسي للحكومة الإسرائيلية، وإطلاق سراح جميع الرهائن: الإسرائيليين مثل الـ 5000 مدني فلسطيني (بينهم 170 طفلاً) المحتجزين بصفة غير قانونية في السجون الإسرائيلية، وحثّ إسرائيل على إنهاء 75 سنة من احتلال فلسطين».
قبل هذه الواقعة، في نيسان (أبريل) الماضي حين لم يكن سعير الهمجية الإسرائيلية قد تكالب على قطاع غزّة، كانت عريضة أخرى كندية قد شهدت توقيع 1,200 ممثّل لمجموعة «إيكو» المتخصصة في التحقق من أخلاقيات الاستثمار؛ تدعو مصرف Scotiabank إلى التوقف عن الاستثمار في شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية «إلبيت». وقال الموقعون: «نريد معرفة السبب في أنّ المصرف يستثمر مئات ملايين الدولارات من تمويلات عائدة لعائلات من الطبقة المتوسطة». يومها كانت المعطيات تشير إلى 1832 استثماراً للمصرف في منظومات «إلبيت» المختلفة، الأمر الذي رأى معظم خبراء الاستثمار أنه غير مألوف ويجافي المنطق الاقتصادي والمالي السليم، وثمة بالتالي سياسة أخرى عليا تحكم هذا الخيار.
في الأدب والجوائز، كما في الصيرفة والاستثمار، ليست غزّة حاضرة لأنّ جرائم الحرب الإسرائيلية تفقأ كلّ بصر وتقتحم كلّ بصيرة فحسب؛ بل كذلك، ولعله أرفع مغزى، لأنّ مغمضي الأعين عن سابق قصد، ومغلقي العقول عن سابق تصميم، باتوا أشدّ عجزاً في أفانين استغفال العقول وإغفال الضمائر وتكميم الأصوات؛ حتى حين يبدو أن تكديس ملايين الأرباح هو المعيار، أو يلوح أنّ المحتد الديني سيّد السلوك. وعلى غرار أمثولة الشموس التي هيهات أن يحجبها غربال، يتخذ الحراك ضدّ إقصاء المشهد الغزّاوي من تثمين الأدب وتمويل الإبادة وجهةً متحدة متضامنة، عابرة لأخبث الطرائق في تجنيد/ تجميد وعي التكافل الإنساني المبدئي.
ولأنّ رواية برنستين تدور حول الهوية والاقتلاع وحقوق المستضعفين، فإنّ الراوية/ البطلة تختتمها هكذا: «رُفض الكثير سلفاً. رشح الكثير على مدار الزمان والمكان، أطول من عمر كامل، أعرض من بلد، أوسع من حكاية منفى لشعب واحد. وأكبر دائماً».
كأنه مقام غزّة، في الأدب كما في الصيرفة!
وسوم: العدد 1060