إضراب الشغيلة التعليمية: من الأسباب إلى الأضرار الجانبية
يُعرِّف معجم المعاني الجامع الإضراب عُرْفا على أنه الكف عن عمل ما، واصطلاحا بأنه الكف عن الشيء بعد الإقبال عليه، وهو ما ينطبق على إضراب الشغيلة التعليمية. ومساهمة مني في إغناء النقاش الدائر حول الموضوع، ارتأيت أن أتناوله من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الكف؟ وما الأهداف المتوخاة منه؟ وما هي الأضرار الجانبية المترتبة عنه؟
إجابتي عن هذه الأسئلة ستكون بقدر فهمي للموضوع، من خلال المعطيات المتوفرة في الساحة، بعيدا عن كل الخلفيات التي يمكن توظيفها لخدمة أجندات معينة.
ففيما يخص الأسباب، يبدو أن أهمها هو السبب المادي في شقيه: الشق المرتبط بالراتب الذي يتقاضاه جل المشتغلين بمهنة التدريس، ثم الشق المتعلق بالظروف المادية التي تُمارس فيها العملية التربوية، سواء تعلق الأمر بطبيعة ووضعية قاعات التدريس، أو بتوفير العدة التجريبية والديداكتيكية...ولا شك أن هذا السبب الذي طال أمده حتى أصبح بنيويا، كافٍ للدفع برجال ونساء التعليم إلى الإضراب، وإطالة أمده، خاصة وأن كل الإضرابات الإنذارية السابقة لم تؤت أكلها، ذلك أنه على الرغم من وجود مؤسسات في المستوى، فلا أحد ينكر وجود مؤسسات لا تملك من عناصر المؤسسة التربوية إلا الاسم، ولا أحد يجهل الوضعية المادية المتردية لجل رجال ونساء التعليم المبتدئين على الخصوص، مع استثناء تلك الفئة التي اتخذ أصحابها من المهنة وسيلة للاسترزاق، من خلال التعاطي المفرط للدروس الخصوصية في المدارس الخصوصية وفي المنازل بل وحتى المرائب (جمع مرأب). ومما لا شك فيه أن عددا من هؤلاء أجبرتهم ظروفهم المادية على الانخراط في هذا النوع من التجارة المقنعة، قبل أن يتحولوا إلى "مقاولين" ينتقلون من مكان لآخر حفاظا على المكسب المادي الذي تم الاعتياد عليه إلى الحد الذي يصعب، إن لم أقل يستحيل التراجع عنه. إذ كيف ل 5000 درهم أو ما يعادلها أن تفي بأدنى حاجيات العيش الكريم، من المسكن والملبس والمأكل والمشرب ووسائل التنقل، حتى بالنسبة للمعفيين من الإنفاق على غيرهم من أفراد الأسرة سواء كانوا أبناء أو آباء أو إخوة، أما إن كانوا غير ذلك، وهو حال جل الموظفين من الطبقات الوسطى، في مختلف القطاعات، بحيث بمجرد "ظفر" أحدهم بوظيفة يجد نفسه في وضعية القاطرة، التي تُلحَق بها مجموعة من العربات التي يتعين جرها دون اعتبار لقوة محرك القاطرة، وأعتقد جَازِمًا أنه يستحيل على أصحاب القرار-إن كانوا فعلا أصحاب قرار – أن يتصوروا معاناة أستاذٍ هذه وضعيته، وبالأحرى أن يعيشوها، خاصة بالنسبة للذي يزاول عمله بإحدى كبريات المدن كالرباط والدار البيضاء...أما المنسيون في الأماكن النائية، فذلك موضوع آخر.
أما فيما يتعلق بالأهداف المتوخاة منه، فبعيدا عن كل مزايدة، فلا شك أن الهدف المادي حاضر بقوة، وهو يتمثل إجرائيا في تحسين الوضعية المادية لرجال التربية والتعليم، مع العلم المبلغ المالي المعلن عنه عقب المفاوضات التي جمعت النقابات "الأكثر تمثيلية" بالحكومة، لا يفي بالمطلوب في ظل الغلاء الذي شمل كل مناحي الحياة. وبهذا الخصوص لا بد من الإقرار بأن الزيادة في الأجور تصبح غير ذات معنى، ما لم تنعكس بالإيجاب على القدرة الشرائية للمعنيين، وهناك هدف آخر لا يقل أهمية عن الأول، يتعلق بالوضع الاعتباري لرجل التعليم، إن على مستوى الوثائق الرسمية وعلى رأسها القانون الأساسي لرجال التربية والتعليم، أو على مستوى المُجتمع. ويبدو من خلال ردود الأفعال المعبر عنها عبر مختلف وسائل التواصل، أن عموم المجتمع قد وَعوا أهمية رجل التعليم سواء المتفقين مع الإضراب أو الرافضين له، وهو ما يمكن اعتباره مؤشرا على تغييره للنظرة الدونية التي جعلت منه موضوعا للتندر والتنكيت. هذا من جهة، من جهة ثانية، يبقى على الجهات المسؤولة أن تتجاوز خطاب التنويه بأهمية رجل التعليم، ومكانته المركزية في الرقي بالمجتمعات إلى الفعل، وذلك بإعداد نظام أساسي يعكس هذا الخطاب ويجسده في خطوات ملموسة، تُستشَفُّ منها ملامح النهوض بالمنظومة التربوية من خلال التحديد الدقيق للمهام والشروط الموضوعية للقيام بها، الأمر الذي يستلزم من الدولة تحمل مسؤوليتها في تمكين نساء ورجال التعليم بتكوين أساسي متين، يتم إردافه بتكوين مستمر منتظِم يستهدف النقائص المعايَنة من قبل جهاز المراقبة التربوية، الذي يتعين الاهتمام به وعدم القفز على دوره كما هو ملاحظ، أو تلك التي يرغب المعنيون في تطويرها وصقلها.
وإذا كان الإضراب قد أحرج المسؤولين أمام عموم المواطنين، وفرض نوعا من الاعتراف بأهمية رجل التعليم من قبل مختلف فئات المجتمع، فإنه على غرار كل انتفاضة في وجه الظلم والاحتقار، تشوبه مجموعة من الممارسات التي تقلص من فعاليته. وبعيدا عن الخلفيات التي يمكن أن تَستغل الإضراب لصالح طرف دون آخر، كما أشرت إلى ذلك في بداية المقال، فإني أعتقد أن المضربين قدموا خدمة مجانية للتعليم الخصوصي، وإلا فما معنى أن يُضرِب القطاع العمومي في الوقت الذي يشتغل فيه القطاع الخصوصي، مع العلم أن هذا الأخير يعتمد أساسا على أساتذة التعليم العمومي، بمن فيهم المتقاعدين العادين، أو الذين استفادوا من التقاعد النسبي. ولنفترض جدلا أن للتعليم الخصوصي أساتذته الخاصين به، فهل وضعيتهم أحسن حالا من وضعية أساتذة التعليم العمومي؟ أعتقد أن رفع شعار الدفاع عن الوضعية المادية لرجل التعليم من جهة، وعن الرقي بالتعليم العمومي من جهة ثانية، يقتضي عدم حصر الإضراب في التعليم العمومي، بل ينبغي تعميمه ليشمل التعليم الخصوصي، خاصة بالنسبة للأساتذة الذين لهم ارتباط بالعمومي، بغض النظر عن كونهم متقاعدين أو مزاولين، وإلا فإن النتيجة الموضوعية المرتقبة هي ترجيح الكفة لصالح المؤسسات الخصوصية، وذلك بنزوح كل من له القدرة نحوها، مما سيؤدي بالضرورة إلى رفع الأثمنة طبقا لقاعدة العرض والطلب، وهو ما يمكن اعتباره ضررا جانبيا لهذا الإضراب، علما أنه يتماهى مع مخططات الذين يعملون على إفشال المدرسة العمومية. لذلك أقول إن صِدْقَ النية في الدفاع عن التعليم العمومي لا بد أن يُصدقه العمل، بحيث لا يُعقل أن يَكُفَّ أستاذ ما عن العمل في العمومي، ويشتغل في الخصوصي بمختلف تجلياته، سواء في المدارس الخصوصية أو في المنازل أو في المرائب أو غيره من الأماكن، كما أن اجتهاد الأساتذة في تحسين مردوديتهم، إن على مستوى التمكن من مضامين المواد التي يُدَرِّسونها، أو على مستوى إتقان الطرق البيداغوجية والديداكتيكية، مسألة جوهرية لتجويد العملية التربوية، وورقة أساسية في كسب المعركة ضد كل من يرغب في تقويض أسس المدرسة العمومية. يضاف إلى هذا عدم التلقي السلبي للمقررات وترديدها أوتوماتيكيا، وإنما يتعين التعامل معها باستحضار مرجعية الأمة المغربية وثوابتها، وتقديم انتقادات واقتراحات عملية في إطار عمل جماعي رصين، سواء على مستوى المادة الواحدة داخل المجالس التعليمية، أو على مستوى مختلف المواد في إطار مجالس التدبير أو ما يقوم مقامها، أو حتى عبر المنابر الحرة.
في الأخير أقول لرجال التعليم ونسائه، بأن ما قمتم به حتى الآن شيء مهم، لأنه أظهر حقيقة كل الأطراف المعنية، خاصة أولئك الذين يُتاجرون بمصير الأمة من خلال العمل على إفلاس التعليم العمومي، إلا أنه أناطكم بمسؤولية ثقيلة تتجاوز المطالبة بتحسين الظروف المادية، إلى عدم الانخراط عن وعي أو بدون وعي، في دعم التعليم الخصوصي الذي يطمح عدد من المتاجرين فيه إلى تقويض المدرسة العمومية، وإخلاء الساحة من خَصْم يَحُد من جشعه المادي عوض العمل معه جنبا إلى جنب، يجمعهما التنافس الشريف من أجل الرقي بالإنسان المغربي إلى أحسن المستويات في انتظار التخلي عنه وتمكين كل المغاربة بتعليم عمومي في المستوى، باعتباره حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وواجبا مركزيا من واجبات الدولة تجاه أبنائها.
وسوم: العدد 1062