أوهام التّدمير الرُّوحي للفلسطينيين…
كتب شاب غزّاوي: اشتقت لتلك الأيام التي كان صديقي فيها يتّصل ويسألني: أينَ أنتَ؟ فأجيبه: أنا في البيت!
أنا في البيت، أو أنتظرك أمام البيت، أو تعال اسهر عندي في بيتي! عبارات اختفت من أفواه مئات آلاف أبناء قطاع غزّة الذين باتوا بلا بيوت ولا عناوين، وتراكمت أسطحها بعضها فوق بعض، وبعض الأحبّة ما زالوا مدفونين تحت وبين حجارتها وإسمنتها.
اختفى رقم العمارة والطّابق والشّقة، لا نوافذ، بعضها كان يُطلُّ على الشّارع وحركة الناس والسَّيارات والعربات التي تجرها البهائم، وهذا محظوظ، وأكثر منه حظاً من كان يرى زرقة البحر من شرفة شقّته، ويداعب النسيمُ الطري وجهه وشعرَه، وبعضها يطلُّ على جدار عمارة أخرى تكاد تلتصق بها، تلك البديهيات في حياة البشر، اختفت من حياة الغزّيين وصارت ذكريات وأمنيات، بعضهم لم يغادر بعناد، وقد اختار، إذا لم يكن من الموت بد، فليكن في بيته أو في بيت قريبٍ له مثل الشاعر سليم نفار الذي استشهد مع عدد من أبناء أسرته يوم الخميس الماضي، نتيجة قصف شقته في حي النّصر في غزة، سليم ابن شهيد أصبح شهيداً وزوج شهيدة وأباً لشهداء.
مساحة الشَّقة لم تعد مهمة ولا نوع قصارتها ولونها الخارجي، فمهما كانت صغيرة، كانت قد حوت بين جدرانها الألفة والمحبة والدفء، وأبناء الأسرة الواحدة.
لم يعد مهمَّاً ديكور الصالون والمطبخ، الغزّيون وأبناء القطاع عموماً فنَّانون في ديكورات البيوت، بعضهم يتقن كل الأعمال من بناء أساسات البيت حتى رصفه وطلاء جدرانه وتركيب ديكوراته من الجبص التي يجعلونها تُحفاً في التّظليل والإضاءة، ويجعلون من أسطح البيوت حدائق تعوّض النَّقص في الأرض والازدحام السُّكاني، ولهذا تنبت الأسطح شجراً وورداً وخضاراً وأقفاص حمام ودجاج.
بالمال ولا بالعيال، المهم سلامتكم، إن شاء الله تطلعوا بالسّلامة، سيعاد بناء غزة أفضل مما كانت، الله يرحم الشُّهداء، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
أكثر من مئة مسجد هُدمت إضافة إلى ثلاث كنائس، في لحظة تسقط قبابها وتتهاوى مآذنها ويضحك جنود الرَّبِ مهنئين بعضهم بعضاً.
كثيرة هي المساجد، بعضها أقدم من إمبراطورية أمريكا بألف عام وأكثر! المسجد العُمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، كان معبداً لداغون إله الخصوبة عند قدماء الفلسطينيين الوثنيين، ثم صار كنيسةً بيزنطية، ثم أصبح مسجداً بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام ومصر في القرن السابع الميلادي، دمَّره المغول عام 1260 ميلادية، ثم أعيد بناؤه، وقصفه الإنكليز في الحرب العالمية الأولى، وأعيد ترميمه من جديد، وجرت توسعته، وقبل أيام قصفته آلة الحرب الأمريكية الصهيونية، وأطاحت بمئذنته وقبابه.
أكثر ما يضايق الاحتلال هو الكنوز التاريخية، إنها تذكّرهم بأمرٍ متغلغل في أعماق نفوسهم المريضة، إنّهم يكرهون كلَّ عريق وراسخ عبر الدهور، يستفزُّ فيهم الدّونية، ويذكِّرهم بأنّهم عابرون مثل كثيرين غيرهم مرّوا في هذه الدِّيار.
لهذا يحاولون السَّطو على كلِّ قديم لينسبوه إليهم، فإذا تعذّر عليهم، فضَّلوا هدمه بقصدٍ وترصُّدٍ لمحو الذاكرة، وبهذا يقلِّدون أسيادهم الأمريكان الحاقدين على كل الحضارات العريقة، وخصوصاً في بلاد العرب.
دائماً يتوعّدون العرب بإعادة مدنهم وآثارهم ومتاحفهم إلى العصر الحجري، هكذا هم لا يقدمون للعرب سوى الدّمار والخراب، أو الخضوع غير المشروط لأطماعهم وقِيمهم التي تنفضح في كل جولة، فلا حضارة ولا إنسانية ولا ضوابط ولا قوانين سوى ما تعلّموه من الضِّباع والكلاب المسعورة.
هدم الأمريكيون ما استطاعوا هدمه في العراق، ونهبوا ما استطاعوا نهبه، وقتلوا ما قتلوا من البشر والشَّجر، وتركوا بصمتهم وخساستهم وبهيميّتهم في سجن أبو غريب وغيره، فعرّوا السُّجناء ودفعوا كلابهم لتنهش لحم العرب، وتباهت عاهراتهم بالصُّور على أكوام الأجساد العارية، وما فعله جيش الاحتلال في غزة ليس سوى تقليد للسَّيد الأمريكي، ولهذا لا يحقُّ لجو بايدن أن ينزعج مما يرى ويسمع، لأنَّه القدوة أوَّلاً، وهو الداعم الحنون بآخر ما أنتجته ترسانة الدمار الأمريكية، وهو يعرف أين ستتّجه ومن ستقتل.
يغيظهم متحفٌ وحَيٌ قديم، ومُسن مشقق الوجه يستظل بزيتونه، يغيظهم ثوب امرأة مشغول بالإبرة، فيبدو مثل لوحة فنية، يغيظهم مصباح في شارع ومعصرة زيتون أو سِمْسِم، يغيظُهم جريح نطق بالشهادتين قبل أن يلفظ روحه.
إلى جانب الدّمار المادي، هنالك محاولات للتدمير الروحي، فالاحتلال بوحشيته وساديته لا يسعى فقط إلى تسجيل أرقامٍ قياسية في القتل والهدم، بل يسعى كذلك إلى زعزعة الإيمان واليقين المتغلغل عميقاً في نفوس الناس، تهدف الجرائم بلا أيّة اعتبارات لمواثيق دولية أو أخلاق أو روادع دنيوية أو دينية لإقناعهم بأنّ ما يؤمنون به لا يحميهم! فهو يريد كيَّ الوعي، يريد أن يدخل في الذهنية الفلسطينية والعربية أسطوانة قاسية جديدة، تتصالح مع الاحتلال وتستسلم للعنصرية وتعترف بالدونية أمام الأسياد في إسرائيل وأمريكا.
لكن ولسوء طالع هذا الوحش الدموي، فما يجري هو المزيد من تمسك هؤلاء القوم بقناعاتهم الرُّوحية، فليس لديهم سوى هذه القناعات يتّكئون عليها في هذا البحر من الّلؤم والخراب والوحشية التي تشيب لهولها الولدان، لا يمكن تخيّل العيش والصبر في كل هذا الخراب وفي لهيب هذه المحرقة من غير قوّة روحية تنتشل الناس من حُفَر اليأس التي يحاول الغزاة زرعها في أنفسهم وأرواحهم وعقولهم، لدفعهم إلى مواجهة أبنائهم وأخوتهم من المقاومين، واتهامهم بأنّهم السَّبب في كل هذا الموت والخراب، وأنّهم هم الذين جلبوا ويجلبون هذه الكوارث عليهم، أن يحيلوا مسؤولية هذا الجرح الغائر النازف والملتهب على مقاومي الاحتلال، الغريب أن قادة الاحتلال لا يتقنون لُعبة العصا والجزرة البسيطة، بل إنهم ببساطة تنازلوا عنها، فهم يسعون لتحطيم من يقاوم، ويتوعّدون ذاك الذي لا يعترف بالمقاومة، بل ويرجوهم منذ أعوام بالعودة إلى مائدة المفاوضات، فهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم، فالناطق باسم رئيس الحكومة يتحدّث إلى شعب عريق عمره آلاف السنين كما لو كان في روضة أطفال، فينصح أهالي القطاع بأن يثوروا على المقاومة لأنّها جلبت عليهم الكوارث، وهكذا يضرب عصفورين بحجر؛ فهو يبرئ الاحتلال ويحمّل المسؤولية للمقاومة ويحرّض الناس عليها!
قد يكون هناك فلسطينيون لا يريدون حكم حماس في قطاع غزّة ولا غيرها، ويفضّلون حكماً من نوع مختلفٍ، ليس بالضرورة حُكم سلطة رام الله، ولكن حتى ألدّ أعداء حماس من أبناء الشَّعب الفلسطيني يدركون أنّ الاحتلال هو الجريمة الكبرى بلا منازع، بل إنَّه يتفوّق على نفسه في وحشيته التي تتفاقم عاماً بعد عام، قد ترتكب الضحية أخطاء خلال مسيرتها في التخلص من الاحتلال، وقد تقع في سوء تقديرات، ولكن هذا لا يخفي الحقيقة السّاطعة ولا يبرِّئ المُجرم الغارق في دم ضحاياه من قمة رأسه حتى قدميه.
وسوم: العدد 1062