أحداث غزة فرصة تمحيص بامتياز لكل من في المعمور من البشر
بعد مرور ما يزيد عن شهرين على أحداث غزة التي يجب أن تسمى باسمها الحقيقي، فهي حرب إبادة جماعية يقوم بها الكيان الصهيوني العنصري بتأييد من العالم الغربي بأسره ، وضحاياها مدنيون فلسطينيون أبرياء معظمهم أطفال، ونساء ، وشيوخ ، ومرضى، وفيهم أطباء ، ومسعفون ، وصحفيون ... وغيرهم، بدأت المواقف تتبيّن بخصوصها من خلال ما نقلته مختلف وسائل الإعلام العالمية ، وما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي من مواقف شعوب المعمور ، ومن آراء لمفكرين من كل التيارات الفكرية والإيديولوجية .
ولقد شكلت أحداث غزة تمحيصا لكل من في المعمور ، وكانت نتيجته عبارة عما يلي :
مواقف شعوب عكستها مظاهرات مليونية في كل بقاع العالم، ووحدّها شجب واستنكار هذه الحرب القذرة بالرغم من اختلاف هذه الشعوب أوطانا، و مللا، ونحلا، وكان قاسمها المشترك ،هو الغضب لانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني فوق أرضه المحتلة ، والعالم الغربي بشطريه الأوروبي والأمريكي، هو المسؤول تاريخيا وأخلاقيا عن احتلالها ، وهو اليوم المتورط مباشرة في إبادته الجماعية عسكريا وسياسيا . ولم يخل العالم من طوائف شاذة في شعوب بعينها على قلة عددها مقارنة بالمليونيات المؤيدة للضحية ، خرجت للتعبير عن تأييدها للجلاد الصهيوني معبرة عن موت ضمائرها ، وعن خستها ، وعن نزعاتها العنصرية والنازية ، وعن كراهيتها لكل ما له صلة بدين الإسلام .
و مواقف مفكرين، وقد انقسمت إلى تأييد جلي لمأساة الشعب الفلسطيني ، وآخر محتشم ، وثالث غائب ، ولم تخل هذه المواقف أيضا من تأييد صريح للجلاد الصهيوني ينم عن حقد على الإسلام .
ولا بد من الإشارة إلى أن المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية ، فيها ما هو خالص عربي، وإسلامي ، وغربي ، وفيها ما هو مشوب ،وموظف لخوض انتخابات خصوصا في بلاد الغرب .
وأما المواقف المحتشمة ، فسبب احتشامها الخوف عند إبداء التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين من تهمة تأييد المقاومة الفلسطينية التي يصفها الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون بالإرهابية .
وأما المواقف الغائبة ، فليست كلها محايدة، بل لا شك أن فيها ما هو ميّال لتأييد الضحية دون التصريح بذلك ، وفيها أيضا ما هو ميّال لتأييد الجلاّد ،ولكن في الحالتين معا هناك خشية من عواقب الإفصاح عن ذلك.
وأما المواقف المجاهرة بتأييد الجلاد ، فهي على قسمين : متصهينون غربيون ، ومتصهينون عرب وغير عرب محسوبون على الإسلام من الذين رفعوا شعار " كلنا صهاينة "،وهم بذلك يقايضون المبدأ بما يتوهّمونه مصلحة في تصهينهم ،وهوعين المفسدة .
وممن كشفوا النقاب عما ترتب عن أحداث غزة من مواقف ، شخصيتان مغربيتان مفكر وداعية ، أما المفكر، فهو الدكتور حسن أوريد الذي نشر مقالا تحت عنوان : " صدع غزة وارتداداته على المثقفين " ، وأما الداعية، فهو الدكتور محمد أبياط الذي نشر فيديو بعنوان : " رحم الله أمة سفه علماؤها وضلّ ساستها " ، وكلاهما أدان مواقف المتخاذلين الذين خذلوا المسجد الأقصى بخذلانهم لمقاومة الشعب الفلسطيني التي إنما حركها التهديد بتهويد القدس، وتدمير المسجد الأقصى لإقامة هيكل سلمان المزعوم ، وقد بدأ ذلك بكثرة أو بتوالي عمليات تدنيسه من قبل المستوطنين الصهاينة المتطرفين ، وترهيب ومنع رواده من إقامة صلواتهم فيه استعدادا لإجلائهم . ومعلوم أن المقاومة الفلسطينية بكل طوائفها لم تختر عبثا اسم طوفان الأقصى تعبيرا عن مباغتة العدو الصهيوني الذي كان على الدوام متربصا بها يغير عليها متى شاء، بل أرادت من وراء هذه التسمية تنبيه الرأي العام العالمي والإسلامي تحديدا إلى ما يتهدد مقدسات إسلامية هي من مقومات هوية الأمة الإسلامية.
ولقد كان عنوان فيديو الداعية أبياط وقد أبعد عمدا عن منبر الجمعة منذ مدة أبلغ من عنوان مقال المفكر أوريد ، مع أن الفيديو والمقال معا انتهيا إلى نتيجة واحدة ، وكان صاحباهما معبرين بوضوح عن إرادة الأمة الإسلامية ، وعن موقفها الذي عبرت عنه التظاهرات المليونية من طنجة إلى جكرة حسب تعبير الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي . وسر بلاغة فيديو الداعية أنه حمّل مسؤولية موت الأمة إلى سفه علمائها الذين تقاعسوا عن نصح ولاة أمورها ، وقد ضلوا سبل قيادتها القيادة الرشيدة التي تجعلها حيّة بين أمم المعمور . وكلمة الداعية المبعد قسرا عن واجبه الدعوي ظلما وتحاملا، تشير بعمق إلى خطر زوال الأمة المهددة في هويتها الإسلامية، وقد صارت بلا علماء راشدين ،وبلا قادة مهتدين يصونونها . وأحسب أن الدكتور أبياط يعني بسفه علماء الأمة المترسمين منهم حسب تعبير الإمام أبي حامد الغزالي في مقدمة مؤلفه " إحياء علوم الدين " أي الذين يمنعهم القيام بواجبهم العلمي والديني ما يرسم لهم القادة من رسوم تخدر حسهم الدين ، فينشغلون عن الأولويات ، وعلى رأسها استهداف الهوية الإسلامية بالتفاهات التي نفض منها شرع الله تعالى يده منذ قرون ،وقد أكمل سبحانه دينه، ووطد له الأكناف في المعمور. ولو أن سفه هؤلاء العلماء زال عنهم، لكان بذلك زوال ضلال القادة ، وكانت النتيجة عودة الحياة إلى هذه الأمة من جديد التي هي اليوم في حكم عليل منهك في قاعة إنعاش، يترقب أعداؤه فيض روحه بعد موت سريري طال أمده ، وانطفأ كل أمل في عودة الحياة إليه إلا ما طرأ من بصيص أمل في غزة العزة الذي يجهز عليه بقوة أعداء الأمة مستغلين سفه علمائها ، وضلال قادتها ،ولله الأمر من قبل ومن بعد .
وسوم: العدد 1063