دلالة الفيتو الأمريكي الأخير الذي عطّل قرار العضوية الكاملة لدولة فلسطين بمنظمة الأمم المتحدة
لم يكن استخدام الولايات المتحدة الأمريكية الفيتو المعطل لمشروع قرار تمكين الدولة الفلسطينية من عضويتها الكاملة بمنظمة الأمم المتحدة أمرا مستغربا بل كان متوقعا ومنتظرا بناء على ما درجت عليه من استخدامها له ضد قرار توقف الحرب في قطاع غزة التي هي حرب إبادة جماعية مكتملة الأركان وفق منظور العدالة الدولية ، إذا صح وجود مثل هذه العدالة في عالمنا ، والتي هي عدالة بالقوة وليست بالفعل.
ومعلوم أن تكرار الفيتو الأمريكي الناقض لوقف الحرب دلالته أن الإدارة الأمريكية لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف إلا باستكمال الكيان الصهيوني إبادته الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة ، وهذا هو في الحقيقة هدفه الرئيس والأول ، وليس هو ما يدعيه من رغبة في تحرير رهائنه المحتجزين في غزة لدى فصائل المقاومة أو هو القضاء عليها هنالك .
وواضح من حجم أعداد الضحايا الذين يسقطون يوميا منذ الثامن من أكتوبر من العالم الماضي أن تحقيق هدف هذه الحرب العدوانية إنما هو الإبادة الجماعية لغرض إن كان غير معلن أو مصرح به ، فإن بعض الملاحظين والمحللين من ذوي الاطلاع قد أشاروا إليه منذ اندلاع هذه الحرب ، بل قبلها ، وهو تغيير ملامح قطاع غزة بشريا وعمرانا من أجل ما وصف بإنجاز مشروع ضخم هوعبارة عن ميناء صهيوـ أمريكي وأوروبي في مدينة فلسطينية محتلة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط ، الذي سيكون قطاع غزة هو الممر البري إليه ، و الذي عبره ينقل حمولات بترول وغاز الشرق الأوسط بالدرجة الأولى ، وغيره من مختلف الحمولات من أجل تفادي المرور عبر الممر البحري سواء بباب المندب في البحر الأحمر ، أو بمضيق هرمز بالخليج العربي .
وهذا المشروع هو نتيجة الصراع والتنافس بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة وبين القوتين النوويتين روسيا والصين من أجل الهيمنة على الاقتصاد العالمي ، وهو صارع يأخذ شكل حرب اقتصادية توظف لها بؤر التوتر الساخنة ، والتي يعتبر قطاع غزة إحداها ، فضلا عن بؤر أخرى مشتعلة ، وكلها تستخدم من أجل تحقيق أهداف هذه الحرب الاقتصادية العالمية بين القوى النووية لمعسكرين على طرفي نقيض .
ولقد جاء الفيتو الأمريكي الأخير ليؤكد بما لا يذع مجالا للشك أن الهدف من وراء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة هو تغيير جغرافيتها البشرية والعمرانية ، خلافا لوضعه الحالي ، وذلك من أجل تأمين الممر البري إلى الميناء الموعود الذي سيكون عالميا وعملاقا ، وسيسهل نقل حمولات الطاقة وغيرهما من المقدرات إلى القارة العجوز، وعبره ستسوق أيضا صادراتها المختلفة .
ولا شك أن الرصيف البحري الذي يجري به العمل الآن على قدم وساق في ساحل غزة من طرف الإدارة الأمريكية تحت ذريعة توفير ممر مائي من أجل نقل الغذاء إلى الشعب الفلسطيني المحاصر، ما هو إلا مؤامرة خبيثة لتهجير هذا الشعب قسرا إلى جهات قد يكون تم تعيينها قبل بدء الهجوم الصهيوني على رفح ، وذلك من أجل تسهيل وتسريع تحقيق الهدف الصهيو ـ أمريكي والأوروبي المنشود .
ولقد تأكد للعالم أن الإدارة الأمريكية هي الطرف الرئيسي في هذه المؤامرة الخبيثة والماكرة ، وأن الكيان الصهيوني ما هو إلا عرّاب يحاول أن يقنع العالم بأنه كيان له سلطة القرار واستقلاله دون التأثر بإملاءات الإدارة الأمريكية ، وكذا الظهور بأنه هو من يتحكم فيها ، ويملي عليها ما يجب عليها تجاهه .
وقد آن الأوان للسلطة الفلسطينية أن تودع أحلامها السرابية التي تحلم بها من وراء التطلع إلى أوهام مسلسلات السلام مع كيان غاصب محتل ودموي ، لم يغز أرض فلسطين ليكون مسالما أو قابلا للتعايش ، وإنما احتلها ليكون الجبهة المتقدمة للإدارة الأمريكية ا الطامعة في المقدرات الخليجية أولا ،وفي مقدرات العالم العربي بأسره ، وذلك لصنع رفاهيتها ، ورفاهية العالم الغربي المهيمن على الاقتصاد العالمي على حساب بؤس العرب بالدرجة الأولى قبل بؤس غيرهم من الأجناس الأخرى .
ولا يمكن أن يفسر استعمال الفيتو الأمريكي الأخير سوى اعتباره رفضا صريحا لوجود دولة فلسطينية مستقلة مستقبلا .وإذا كان مجرد قبول العضوية الكاملة لهذه الدولة التي يوجد شعبها فوق أرضها المحتلة ضمن دول منظمة الأمم المتحدة أمرا مرفوضا أمريكيا ،فكيف يمكن أن يعترف باستقلالها الفعلي ؟ وعلى هذا الموقف الأمريكي الخاذل للشعب الفلسطيني يصدق المثل المغربي القائل : " لي ما جا مع العروس ما يجيء مع أمها "، وهو مثل يقال عمن يتطلع إلى ما لا يمكن أن يتحقق بدليل قاطع .
ولقد حان الأوان ليتأكد الشعب الفلسطيني أنه في حقيقة حربه ، إنما هو يحارب الإدارة الأمريكية، و معها الإدارات الغربية ، وأنه ليس يحارب الكيان الصهيوني فقط فيها، والذي هو مجرد أداة يموه بها على أهداف الحرب الاقتصادية العالمية ، وبه تحبك مسرحيات الفيتو الهزلية ، إلى جانب مسرحية مسلسلات السلام التي يزعم الغرب أنه يريد من ورائها حل مشكلة القضية الفلسطينية التي صارت معضلة الآن . وأول ما يجب على الشعب الفلسطيني هو اختيار قيادة كاريزمية ملتزمة بقضية استقلاله وصادقة في ذلك ، وغير مطعون في صدقها أو مشكوك فيه. ولا شك أن الطرف الفلسطيني المراهن على المقاومة الفعلية هو الأجدر بالثقة ، وليس الطرف الذي يتشبث بضباب أو بسراب مسلسلات السلام الكاذبة .
وإذا كانت السلطة الفلسطينية تريد أن تكون محتضنة بقوة من طرف الشعب الفلسطيني ، فعليها أن تتخذ قرارا تاريخيا وشجاعا ، ينهي علاقاتها نهائيا بأوهام السلام مع الكيان الصهيوني العنصري المحتل والغاصب ، والإعلان بكل شجاعة وجسارة وإقدام عن خيار المقاومة المستمرة حتى تحرير كامل أرض فلسطين بالقوة مثل التي احتل بها ، وألا تتردد في ذلك أو تخجل من التصريح به والإعلان عنه ، وهو موقف بدونه لا يقام لها وزن، ولن يكون لها اعتبار في الغرب ، ولن يحسب لها أي حساب .
وعلى الشعوب العربية والمسلمة أن تغير للتو موقف التفرج على الشعب الفلسطيني ، والاكتفاء با دعاء التعاطف معه دون ترجمته عمليا بدعم حقيقي وملموس ،و الحالة أنه يتعرض لإبادة الجماعية فظيعة للغاية ، ولمؤامرة ترحيله وتهجيره قسرا الخبيثة مرة أخرى، كما فعل به إبان نكبة سنة 1948 . ولتعلم هذه الشعوب علم اليقين أن الإدارة الأمريكية إنما تعاملها بنفس التعامل الذي تعامل به الشعب الفلسطيني دون تمييز لها عنه كما قد تتوهم ذلك إما غفلة أو سذاجة منها . و عليها أن تدرك جيدا أن الأمر يتعلق بحركة استعمارية غربية جديدة لا تختلف في أهدافها عن سابقتها في القرنيين الماضيين ، وإنها وإن كانت عبارة عن غزو غير ذي طابع عسكري اليوم ، فإنه قد يكون كذلك في كل وقت آخر إذا لزم الأمر، كما كان الحال في العراق وأفغانستان على سبيل المثال، عن طبيعة هذا الغزو غير العسكري، وهو أخطر على الأمة من الغزو العسكري، وأقل كلفة منه ، فإنه عبارة عن غزو فكري يُمكّن لعناصر مستلبة من بني جلدتنا قصد ترجيح كفتها ، والتمكين بواسطتها لهذا الغزو الماكر، فضلا عن نهجها سياسة فرّق تسد ، والتي لها ما يؤكدها بالملموس في الساحة العربية والإسلامية .
وإن الفيتو الأمريكي الأخير عبارة عن منعطف ينبىء بأن الإدارة الأمريكية ماضية قدما في تنزيل مشروعها الضخم غير مبالية بالقضية الفلسطينية، بل هي تستغلها ، وتتخذها مركبا ذلولا تركبه ،في الوقت الذي تسوق فيه إعلاميا التسويق الكاذب بأنها جادة في إيجاد حل للقضية الفلسطينية التي صارت العديد من الأطراف ترتزق بها من أجل تحقيق مصالحها وأطماعها ، وهي تبطن من الشر والغدر والخيانة غير الذي تبديه من انشغال بالقضية الفلسطينية، وهو ما يكاد يكون ناطقا من خلالا مؤشرات واضحة أنه محض كذب في انتظار أن يعم التطبيع معها الوطن العربي ، ما لم تع أمتنا ما يحاك ضدها من تآمر واضح لا غبار عليه ثم تحول دون حدوثه ، وتقطع الطريق على كل من يقفون وراءه تخطيطا، أو تنفيذا ، أو انخراطا وتمويلا.
وسوم: العدد 1077