بين انتفاضتَيْ 1968 و2024: عناصر التماثل والتباين

قد تتوفر أسباب جدّ قليلة تدفع المرء لاستبعاد سلسلة المقارنات بين انتفاضة 1968، الطلابية أساساً؛ وانتفاضة 2024 الراهنة، التي تتابع إطلاقها شرائح طلابية، هنا أيضاً. تتوفر، في المقابل، أسباب كثيرة متنوعة، في الركائز والمنطلقات كما في الخلفيات والتكوينات، كي يتوقف المرء ذاته أمام مقادير التماثل بين الانتفاضتين؛ من دون إغفال هذا أو ذاك من اعتبارات التباين.

وقبل أيام قليلة أقدمت إدارة جامعة كولومبيا في نيويورك على توقيف الطلاب الذين رفضوا مغادرة مخيّم الاحتجاج على حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، فلم تتأخر مجموعات طلابية في الردّ واحتلال قاعة هاملتون الشهيرة؛ في تكرار، حمّال دلالات شتى، للواقعة التي شهدتها القاعة ذاتها، ولكن يوم 30 نيسان (أبريل) 1968، حين فرّقت شرطة نيويورك الاحتجاجات الطلابية ضدّ حرب أمريكا على فييتنام، واعتقلت 1000 طالبة وطالب.

قبل نيسان 1968، كان شهر كانون الثاني (يناير) من ذلك العام قد دشّن سلسلة من تظاهرات التضامن الطلابية مع الشعب الفييتنامي؛ في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا واليابان وبريطانيا وبلجيكا والولايات المتحدة (شباط/ فبراير، كارولاينا الجنوبية) والجزائر وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والسنغال وفرنسا (22 آذار/ مارس، جامعة نانتير في ضواحي باريس) والبرازيل والسويد والدانمرك وفنلندا والأورغواي وكندا… وصولاً، بالطبع، إلى 2 أيار (مايو) في فرنسا، مع «اليوم العالمي لمناهضة الإمبريالية» وما أعقبه من أيام اعتصامات جامعة السوربون، ونشر الشرطة في الحيّ اللاتيني، والإضراب العام يوم 13، واحتلال مسرح الأوديون وكلية الفنون الجميلة؛ وإحدى أبكر ذرى الانتفاضة، يوم 30، حين أعلن الرئيس الفرنسي شارل دوغول حلّ الجمعية الوطنية.

كلية العلوم السياسية في باريس، أو كما تُعرف أكثر تحت تسمية الـScience Po، لم تكن حينذاك شرارة الاحتجاجات كما هي حالها اليوم، في سنة 2024؛ وليست فرنسا الراهنة، والعاصمة على وجه التحديد، مرشحة للمقارنة بين حراك 1968 ضدّ حرب فييتنام، وحراك هذه الأيام ضدّ حرب الإبادة الإسرائيلية. غير أنّ الموقع الخاصّ المتميز الذي شغلته وتشغله هذه الكلية في صميم جغرافية التظاهرات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، لا يخلّف أثراً عابراً أو محدوداً من حيث طبائع التأثير على الرأي العام الفرنسي بهذا الصدد (سواء لجهة اكتساب التأييد، أو استثارة غضب مجموعات الضغط الإسرائيلية والصهيونية واليهودية، وأحزاب اليمين التقليدي أو أقصى اليمين)؛ فضلاً، بالطبع، عن ردود أفعال قصر الإليزيه بلسان الرئيس الفرنسي ذاته، أو رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والتعليم العالي والعدل؛ وليس بمعزل عن غالبية وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، المملوكة غالباً من رجل الأعمال اليميني المحافظ فنسان بولوريه.

إنصاف انتفاضة 1968 الطلابية العالمية قد يقتضي الرجوع إلى كتاب أساسي، وتأسيسي أيضاً، صدر بالإنكليزية سنة 1987، ولم يقتصر على انتفاضة السوربون، بل رصد الصورة الأعرض لنشوء «اليسار الجديد» من وارسو إلى براغ، ومن باريس إلى لندن ومدريد، قبل بلوغ أمريكا الشمالية واليابان. ذلك الكتاب عنوانه «سنة المتاريس: رحلة في 1968» للروائي والمؤرخ البريطاني دافيد كوت، اليساري حتى النخاع، ولكن ذاك الذي أقضّ مضجع الأنظمة الستالينية في أوروبا، حين انقلب إلى شبح يجوس ظلمات عقائد الجمود أينما أرخت سدولها. وذاك كتاب استجمع قسطاً كبيراً من أفضل مزايا كوت في التحليل والتفكيك والتركيب، ومنهجيته الصارمة في اقتفاء أثر الوقائع، ولغته الأدبية الرشيقة التي تخفف من مشاقّ المتابعة الرتيبة لأحداث معروفة، وانحيازه المعلن إلى الماركسية في غمرة النقد الشديد لأصنامها.

كانت حرب الولايات المتحدة على شعب فييتنام هي دافع الاحتجاجات الأبرز في 1968، ومن غير المبالغة الافتراض اليوم أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني عموماً وقطاع غزّة خصوصاً هي دافع الاحتجاجات الطلابية المتعاظمة في أماكن عديدة من العالم؛ يجوز في قراءة مشهدية اتساعها التشديدُ خصيصاً على الولايات المتحدة وأرجاء أوروبا المختلفة، حيث التأييد الأعمى لدولة الاحتلال انقلب مراراً إلى أنماط من تجميل جرائم الحرب أو حتى التواطؤ فيها وتزويد الإجرام الإسرائيلي بالسلاح والمال والتغطية الإعلامية. وإذا صحّ أنّ المضامين الطبقية المباشرة تغيب اليوم عن حراك التضامن مع فلسطين، ليس كما كانت عليه الحال سنة 1968 حين تقاطعت مطالب التغيير السياسي والاجتماعي مع روحية التضامن ضدّ حرب فييتنام؛ فإنّ اصطفاف قوى اليمين المحافظ ضدّ احتجاجات الطلاب الحالية يوفّر مغزى سياسياً واجتماعياً غير ضئيل، حول الانحيازات الإيديولوجية في الباطن الأعمق من دوافع اعتصامات الطلاب هنا وهناك.

ولعلّ الوجهة الأخرى لعقد المقارنات بين 1968 و2024 تتمثل في استعراض مؤشرات جرائم الحرب في الحالتين، بما يتيح استقراء الدوافع الأعمق، الإنسانية والأخلاقية في المقام الأوّل، التي تحفز الطلاب على الاحتجاج والاعتصام والتضامن والتنديد. السجلّ الإسرائيلي أسفر، حتى الساعة، عن 34.600 شهيد، بمعدلات عالية في صفوف النساء والأطفال؛ و77.816 مصاباً، في شروط طبية وعلاجية شبه منعدمة؛ وجرائم حرب تبدأ من قصف المشافي والمدارس ومراكز اللجوء والإغاثة، ولا تنتهي عند التهجير القسري والتطهير العرقي والعقاب الجماعي. ليست معروفة، بعد، أرقام الكمّ التدميري الوحشي الهائل الذي أنزله جيش الاحتلال بالقطاع، وعواقبه على البشر والبيئة والبنى التحتية سواء في المدى القصير الراهن أو على نطاق المستقبل والعقود المقبلة. القادم أدهى، بالطبع، لأنّ انفلات التوحش الإسرائيلي من كلّ عقال لم يُفتضح تماماً أو في حدود كافية، ويُنتظر بالتالي أن يتكشف عن فظائع أشدّ هولاً ومجازر أكثر دموية.

ليس عجيباً، ولا طارئاً في الأصل والتاريخ، أنّ هذه الولايات المتحدة التي باتت اليوم تنفرد، تقريباً، عن أمم العالم في مساندة التوحش الإسرائيلي والتواطؤ معه وتغذية آلته الإجرامية؛ هي، ذاتها، الدولة التي انتفض طلابها سنة 1968، لأنّ سجلها في التوحش ضدّ الشعب الفييتنامي سجّل سابقة بربرية وهمجية هي الأبشع والأفظع. الجيش الأمريكي قتل أكثر من مليونَي آدمي في فييتنام وكمبوديا ولاوس، وجرح أكثر من 3 ملايين، وشرّد 14 مليون لاجئ في عموم الهند الصينية، ويتّم وأعاق ملايين الأطفال. كذلك أسقط على فييتنام، بشراً وعمراناً، 8 ملايين طن من القنابل و400.000 طن من النابالم، وخلّف 21 مليون حفرة جراء القصف، وصبّ نحو 18 مليون غالون من سوائل مقشِّر أوراق الشجر تاركاً غابات متصحرة انقرضت فيها الطبيعة والطير والحيوان، ونشر أوبئة سرطان الكبد والإجهاض الاضطراري وتشوهات الولادة…

فهل يصعب الافتراض بأنّ مشاهد جرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة هي المحرّك، الأوّل أو الثاني أو العاشر، وراء استعادة ذاكرة التوحش الأمريكي ضدّ فييتنام لدى طلاب جامعات كولومبيا وهارفارد وييل وماساشوستس والعشرات سواها؟ وإذا كانت الشرائح الشبابية في أمريكا وفرنسا، ومواقع أخرى على امتداد الديمقراطيات الغربية، ليست الرائدة في إيقاظ الضمائر وإطلاق الاحتجاج، فمنذا الذي سيفعلها: في أمريكا جو بايدن/ دونالد ترامب على حدّ سواء، أو في فرنسا إمانويل ماكرون ومارين لوبين بالتكافل والتضامن؟

وليست مفارقة أنّ تهمة العداء للسامية لم تُرفع في وجه الحراكات الاحتجاجية سنة 1968، وأنها اليوم اللافتة المشتركة التي يرفعها بايدن وماكرون؛ فللتاريخ تنويعاته على مآس تتماثل في الكثير من العناصر، ولا تتباين إلا في معدلات التشوّه وأفانين التشويه، حيث لا يبدّل جوهر الحال انقضاء 56 سنة، أو مرور عقد أو قرن.

وسوم: العدد 1079