يافا فردوس فلسطين

بعد مرور أكثر من مائتي يوم على حرب الإبادة في غزة، يصفعنا أيار مذكّراً بما حدث في الشهر ذاته، العام 1948؛ من تطهير عرقي، ومجازر، وويلات، كشف عن بعضها، وبقي الكثير في صدور من شهدوا المرحلة التاريخية، ما يدعو إلى تكثيف الجهود البحثية والعلمية للكشف عن المسكوت عنه، والمخفي فيها.

وإذا كان التاريخ الاجتماعي هو تاريخ الناس الذي صنعوا التاريخ، نساء ورجالاً، فمن الضروري والمهم أن تعود رواية الناس التي هُمّشت طويلاً، لتحتلّ الصدارة والمساحة الواسعة من التاريخ المكتوب.

ومع كل راوية وراوٍ ممن يفتحون أبوابهم/ن على الماضي، تعود الأمور إلى أصولها، والحكاية إلى جذورها.

وما يزرع الأمل أن الجيل الشاب في الجامعات الأميركية والأوروبية، قد وضع يديه على أصل القضية الفلسطينية وجذرها، وأدرك أن حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، ما هي إلاّ استمرار للاحتلال الاستيطاني الإحلالي لأرض فلسطين، الذي بدأ منذ 76 عاماً، ولمخطط التطهير العرقي المتواصل للفلسطينيين، منذ العام 1947، ما جعله يطالب بوقف هذه الحرب، وفرض العقوبات على سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويطالب بسحب الاستثمارات من الكيانات الداعمة لها.

*****

«يافا كانت تصدّر برتقان، بعدين صارت تصدّر لاجئين». «يافا فردوس فلسطين، الفردوس المفقود».

عبارتان اختصرتا تاريخ يافا، تضمّنتهما رواية «إنصاف عبد الفتاح» الشفوية، ماضي المدينة، وحاضرها، ومستقبلها.

«يافا كانت تصدّر برتقان»، هي المدينة الجميلة التي كانت تحتلّ مركزاً اقتصادياً وصناعياً وثقافياً واجتماعياً متميزاً قبل العام 1948، حيث كانت تنتج أفضل أنواع البرتقال (بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالبرتقال والحمضيات الأخرى، العام 1938، أكثر من 300 ألف دونم)، وتصدّره إلى الخارج عبر مينائها المهم (بلغ مجموع ما كانت تصدّره العام 1939 أكثر من 13 مليون صندوق)، والتي طالما قدّمت ألواناً متعددة من الثقافة، واستضافت على مسارحها العديد من الأدباء/الأديبات، والفنانين/ات، وكانت تصنع الجلود، والتبغ، والطوب، والبلاط، والصابون، وكان فيها شركات صناعية، تخصَّصت في صنع مضخات للمياه، لتطوير ريّ بيارات البرتقال، وتخصّصت في صناعة صيد الأسماك، حتى غدت من أهم مراكز صيد الأسماك في فلسطين، كما ازدهرت فيها الحياة الاجتماعية، حتى أن الآلاف من سكان يافا كانوا يشاركون سنوياً، في موسم النبي روبين/ مصيف روبين.  

«بعدين صارت تصدّر لاجئين»؛ كان هذا بعد احتلالها (نهاية نيسان - مطلع أيار 1948)، وتطهير قراها عرقياً، حيث هجّر معظم أهلها، وأصبحوا لاجئين.

«يافا فردوس فلسطين، الفردوس المفقود»؛ يافا التي كانت وستبقى فردوس فلسطين.

*****

حرصت إنصاف عبد الفتاح - التي ولدت في يافا، العام 1931، والتي هجّرت منها يوم 28 نيسان 1948، إلى نابلس، إلى الشام، إلى البصرة، إلى الكويت، إلى عمان، حيث تستقرّ الآن – أن تبدأ حديثها بالذكريات الجميلة عن يافا، وتنهيه بالإصرار على العودة إلى يافا.

تحدّثت عن أفراد أسرتها الستة، ووالدها/تاجر البرتقال، وعن مدرستها/ الزهراء، ومدرسة أشقائها/ تراسنطة، وحياة الرغد التي كانوا يعيشونها في البلاد: بيارتهم، وما تنتجه من خيرات.

وعبر حديثها تظهر ملامح يافا الثقافية والاجتماعية: «كنا نلبس المراييل أزرق وأبيض مقلّم، وفِشّ ع الراس! كنا نروح على البحر يوم الأحد، الشباب كانوا يسبحوا، نقعد على الكراسي، انسبِّح رجلينا في البحر، بعدين نروح على البيّارة يوم الجمعة، نقطع برتقان. في المدرسة كانوا يعملوا مسابقات شعرية، حلوة كتير، لهلأ أنا بحفظ أشعار عائشة التيمورية».

كما يظهر عبر حديثها إرهاب العصابات الصهيونية، ومقاومة أهل يافا، حيث شهدت طفلة على مجزرة السرايا (مبنى السرايا العربية، الذي كان يضم مقرّ اللجنة القومية العربية)، التي خلّفت سبعين شهيداً «أحسن شباب يافا، كلهم زيّ الوردة، خريجي الجامعة الأميركية في بيروت، إشي بيبكّي الحجار»، وعشرات الجرحى، ومجزرة سينما الحمراء، التي تمّت بوساطة سيارات مفخّخة وضعت على باب السينما، والتي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء.

تحدّثت عن ابن عمها «حسن عبد الفتاح»، الذي كان يخوض المعارك ضد العصابات الصهيونية، وشقيقها الصغير إبراهيم، الذي كان يحارب في المنشية.

وحين تحدثت عن مقاومة أهل يافا للعصابات الصهيونية، ركّزت على احتضان أهل البلد للثوار الفلسطينيين والعرب، من اليمن، والعراق، وسورية، حيث أمدّتهم نساء يافا، ومنهم: والدتها «رشا الشعراوي»، وخالتها سعاد، وشقيقتها: عيشة، بالسترات الصوفية التي تحميهم من البرد، عن طريق الاتحاد النسائي.

ورغم بأس وبسالة المقاومة في الدفاع عن المدينة، إلاّ أن قلة الأسلحة بيد الثوار، وقلة كفاءة المتوفر منها، أشعرت الأهالي باليأس من القدرة على الاستمرار في المقاومة، خاصة بعد انسحاب الجنود العرب! «لو لقينا جيش، لو لقينا سلاح»!

طالما رفضت والدة إنصاف الخروج من يافا: «لو أنا وبناتي بنِنقِتِل على عتبة باب دارنا ما بنِطلَع»؛ إلاّ أن إحساسها والعائلة بالهزيمة جعلها تقرر الخروج: «انهزمت المنشية، ما فِشّ جمعتين ثلاثة الكل هرب، ما فيه أسلحة»!

وحين تحدثت عن رحلة تهجيرها مع عائلتها؛ تبيَّنت تفاصيل الرحلة القاسية، حيث تعرّضت العائلة إلى القذائف وضرب الطائرات، كما تبيّنت الحاجيات الأساسية، التي حملها أفراد العائلة معهم، والتي تظهر بجلاء اعتقادهم أن رحلتهم سوف تكون قصيرة جداً «ما هو 15 يوم».

حملوا فرشة ولحافاً ومخدة، وبعض أكياس من الطحين، وركبوا سيارة ترك كبيرة، انطلقت إلى نابلس، ليبقوا فيها أربعة أشهر، ويسافروا بعدها إلى بيت خالها في الشام، حيث عملت إنصاف في مؤسّسة للاجئين، وعلّمت لغة عربية وديناً، إلى أن سافرت إلى البصرة، وتزوّجت هناك، ثم انتقلت مع زوجها إلى الكويت، ثم إلى عمان.

*****

لم تعد «إنصاف عبد الفتاح» إلى يافا أبداً، لم تستطع أن تحتمل رؤية بيارتهم وقد أصبحت ملعب كرة قدم.

بقيت يافا مستقرّة في قلب ذاكرتها، ولم تغادرها أبداً. «مهما تعيشي برغد ونعيم، مش راح تعيشي زي ما كنتِ عايشة في بلدك! ولا ممكن ذرَّة أفرِّط فيها».

وسوم: العدد 1080