كيف تبخّر رضيع في غزة؟ اسألوا جيش الاحتلال الإسرائيلي!

لا أعرف كيف أبدأ قصتي فأنا صغيرة جداً والأحداث المتسارعة المخيفة والمأساوية في بلادي تحاصرني من كل جهة. هناك أشياء كثيرة لا أفهمها. لا أفهم لماذا يموت الناس من حولي مع أني أعرف قاتلهم. لقد سمعت أبي يقول لأمي إننا هدف للصهاينة وإننا سنموت لأننا أوفياء لهذه الأرض. ولكني ما زلت لا أفهم ما هو الموت، مع أني أسمع بسيرته يومياً آلاف المرات. كذلك أعرف رائحته تمام المعرفة. أشمها يومياً في كل شيء حولي. إنها متغلغلة في النسمات. تفوح من ركام المنازل ومن أنين الناس. وترتسم على وجه هرتي «ميمي»، التي تختبئ في حضن جدتي حين يشتد القصف. وتظهر جلية في وجوه كل القطط، التي تحاول مثلي استيعاب الموت وتقبله، ولكنها تخفق في كل محاولاتها. وذلك على الرغم من مرور شهور على بداية الحرب وموت 30 ألفا من المواطنين والتشرد المتمدد والضياع اليومي.

قيل لي إن الموت جميل فهو الطريق إلى الجنة، ولكني لم أعتد عليه ولن أعتاده، رغم كثرته. فأنا أخافه جداً وأرتجف أمام جثث الأموات في الشوارع. نعم أعترف لكم أني أخاف الموت جداً، ولا أريد الرحيل قبل أن أكبر قليلاً.

نسيت أن أخبركم. أنا تلين، والآن سأروي لكم قصتي وقصص جيراني، تماماً كما عشتها وعايشت لحظاتها.

كنت مع عائلتي حين قصف جيش الاحتلال بيتنا. فجأة سمعت دوي انفجار عظيم. وقبل أن أستوعب الموقف، تحول النور إلى ظلمة عميقة. ما عدت أرى أحداً من أفراد عائلتي. حينها شعرت بدوار شديد، ولم أكن متأكدة إن مت أم مات الآخرون. كنت أشعر بضيق في التنفس وألم شديد في رأسي. وكنت خائفة جداً ونسيت من شدة خوفي أن أبكي أو قد تكون الدموع قد تجمدت داخل عينيَّ. وبعد وقت قصير غبت قليلاً وصحوت على صوت مسعف يحاول إنقاذي. وكان يسألني إن كنت أحبه. وأنا فعلاً أحببته من لحظة سماعي صوته، وهو يحاول أن يسحبني من بين أنياب الموت. رحت أسأله عن أمي. سألته عنها أكثر من أربع مرات، وفي كل مرة كان يؤكد لي بأنها خرجت قبلي، وهي تنتظرني كي أعود إليها. ولكنه كان، في تلك اللحظات، يكذب كي يحميني من الألم. وحين خرجت علمت أن أمي ماتت ولن تعود. لحظتها فقط ما عدت أخشى الموت وما عدت أرغب بأن أكبر على هذه الأرض يتيمة.

لم نمت بعد!

ولكني لم أمت بعد. ربما لم أمت كي أنقل لكم قصص رفاقي الصغار في غزة. هناك على مسافة ليست بعيدة فتاة صغيرة أخرى. فتاة جميلة الوجه هادئة تحتوي حزنها وآلامها برقي جارح. سمعتها تردد: كان لي أهداف كثيرة خلال السنة الجديدة، كنت سأحقق طموحات وكنت سأنجح، ولكن الحرب أوقفت كل أحلامي. حالي متوقف. كل شي راح. لم أعد أعرف الفرح!

وعندما هزمها الوجع، حنت رأسها لتبكي وكأنها بذلك تحرص على أن تخفي آلامها كي لا تضعف بشكل كامل. وتلك الجملة: «كل شي راح» قد تكون عنوان لحياة كل أبناء غزة.

ومن أحلام تلك الطفلة المتساقطة إلى رحلة عذاب يعيشها طفل يدعى عدي. كان يمشي برفقة أبيها فاستهدفهما جيش الاحتلال المجرم بصاروخ، ولكنهما نجوا بأعجوبة. وحين سأله أحد المراسلين إن كان والده قد استشهد في الضربة، أكد الطفل له أن والده لم يمت بعد، بل هو في غرفة العمليات.

إن السؤال والجواب كلاهما يعكسان عمق التجربة التي يمر بها أطفال غزة. أطفال يتعين عليهم مواجهة الموت والخطر بشكل يومي، ومع ذلك، يظلون مصممين على البقاء والنجاة، مما يعكس قوتهم وصمودهم في مواجهة الظروف الصعبة. هكذا يمشون بجانب آبائهم وأمهاتهم مواجهين الخطر والموت في كل لحظة.

إن حكاية الطفل عدي وأبيه ليست بجديدة على غزة وأهلها، بل هي واحدة من آلاف القصص. ولكنها توثق المزيد من جرائم المحتل وعنجهيته.

تبخّر الرضيع

إنها آخر حكاياتي. لقد سمعت رجلاً يبكي وهو في حالة من الصدمة ويحكي قصة الموت في أسرته ويروي مأساته جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي على مدرسة إيواء للنازحين في مخيم النصيرات: كنّا نائمين هنا. أنا وزوجتي والأطفال. ابني عمره 47 يوماً كان يغفو كالملاك إلى جانبي. صحونا على صوت انفجار كبير وزجاج يتكسّر. وكل ذلك بدون مقدمات أو سابق إنذار. الأطفال أصبحوا أشلاء. أمس كنا نلاعب ابني الرضيع وكنا سعيدين جداً به، ولكننا لم نجد له أثراً. من قوة الانفجار تبخر ابني الصغير.

هذه القصة المأساوية تجسد بشكل مرير الآثار الوخيمة للحرب على الأسر والأطفال الأبرياء. فالصورة التي رسمها الأب عن لحظات الهدوء والسعادة مع ابنه الصغير، وكيف تحولت تلك اللحظات إلى كابوس بسبب القصف العشوائي، تجعلنا نشعر بعمق الألم والحزن الذي يعيشه الأب وعائلته.

وما يزيد الأمر سوءًا هو أن الأطفال، الذين كانوا يحلمون بمستقبل مشرق، أصبحوا ضحايا لا يمكن استرجاعهم، فقد فقد الأب ابنه الرضيع بشكل مأساوي، وهذا الفقدان سيظل يؤلمه ويلاحقه طوال حياته.

وسوم: العدد 1080