في منازل الشهداء
ولعلها من أعز المنازل عند الله سبحانه وتعالى ، ومن أكرم المنازل على وجه المعمورة ، وحسب الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون ، ويبشرون مَن سيأتون بعدهم أن لاخوف عليهم ولا هم يحزنون . وحين يتجاوز عدد الشهداء الأربعين ألف شهيد ، بين طفل وامرأة وشيخ كبير وغيرهم من أهالي غزة خاصة ، ومن عموم أهل فلسطين عامة خلال هذه الأيام ، ومن بينهم أيضا الشباب الذين حملوا السلاح يدافعون عن المقدسات ، ويثأرون للحرمات ، ويبطلون مفعول المؤامرات التي تحاك ضد فلسطين وما فيها من المقدسات ، وما يتم التآمر فيها على أمتنا ومكانتها وقيمها ووجودها . فيقف المسلمون وغيرهم من أحرار العالم أمام هذه الأحداث بكل مشاعر الغضب على هذا العدو الصهيوني ، وعلى الدول التي تساعده وتمده بالسلاح الفتاك ، وقد خلت قلوبهم من أي رحمة إنسانية للمشاهد المفجعة للقتلى وللجرحى ، ثم للآمنين في بيوتهم حيث تم تدميرها على أهلها . ولما نسمع عن الفضائع التي يرتكبها جنود العدو بكل وقاحة واستهتار ، غير عابئين بحرمة المرأة ولا بطفولة الصغار ولا للكبار من الرجال . ولعلها الهرج في هذه الأيام . والهرج هو القتل للقتل فقط .
ونحن كمسلمين نؤمن بقضاء الله وقدره ، وأن الخير فيما يختاره الله للناس ، وهذا الإيمان نابع من أعماق قلوبنا ، ومن حقيقة الإقرار بما أنزل الله على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، ونشهد بأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وهو ثقيل على أنفسنا ، ولكنَّ ثماره الدنيوية والأخروية عالية وسامية ، وقد حرَّكت مشاعر عامة الناس ، بل نقلتهم إلى ميثاق الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناسَ عليها . فكم رأينا من امرأة غير عربية وغير مسلمة تنساب دموعها على ماأوجع فؤادها من مشاهد القتل والتمثيل بجثث القتلى ، وعلى أولئك الأحياء تحت ركام بيوتهم التي دمرها العدو الغاشم على رؤوسهم وعلى ... وعلى ... وعلى ما لا يُعد ولا يُحصى من أنواع المآسي والنازلات . وهيهات أن تقاوم القلوب التي تملؤها الرحمة الإنسانية شدة وقع هذه المشاهد الفظيعة . ناهيك عن الصبر الجميل لدى عامة المسلمين الذين تقوِّي عوامل الصبر لديهم ماهم عليه من إيمان بالله وثقة بقدرته وبعدله ، وبأن مايجري في هذه الحياة إنما هو بتقديره ، فلن يتطرق اليأس إلى نفوس آمنت بالله مهما أصابها ، وربما يكره الإنسان أن يصاب بفجيعة ، ويحب أن يرى النعمة بكل أنواعها بين يديه ، ولكنه لايعلم النتائج التي تعقب مايكره ، أو مايحب . والمسلم هنا يقف ويعيش مطمئنا وهو يقرأ قول الله تعالى : ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 216 / البقرة . أجل : والله يعلم وأنتم لاتعلمون . والإيمان بهذا يؤكد القبول المطلق بما أراد الله . رغم كل ما أصابنا في غزة وفي غيرها من بلاد المسلمين .ولن نتحدث عن جميع النواحي التي تطرق إليها الناس ، من العلماء والصحفيين ، ومن عامة الشعوب العربية والإسلامية ، بل حتى أبناء الشعوب الأخرى الذين باتوا يلومون حكامهم على دعمهم للعدو الصهيوني ، الذي انتفخت أوداجه ، وهو يعربد مهددا ومتوعدا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ولكنه الألم الذي يحاصر قلوبنا ، والوجع الذي أسال دموعنا ، وحالة المعاناة التي نعيشها جميعا . والذي يستمع إلى أحاديث آباء الشهداء وأمهاتهم يكاد لايصدق ما يقولون ، ولكنهم يقولونها عن صدق يحمله الإيمان بالله الذي وعد شهداءَهم بالجنة ، و وعدهم هم بالشفاعة من أبنائهم الشهداء . ولن تعجب من حال امرأة فقدت أولادها تحت القصف ، وهي تمسح دموعها بنور الابتسامات التي تتأرج في وجهها المبارك . أو حال ذلك الرجل الذي يحمل طفلته الصغيرة بين ذراعيه يقبلها ويقول هي روح الروح ، وهو يحمد الله ويسلمها لمَن بيديهم الأكفان ليكفنوها . إنها حكايات لو لم نَرَها أمام أعيننا لقلنا هذه من أساطير الأولين . بل وأكثر من هذا فنساء فلسطين وأمهات الشهداء يهتفن بأعلى أصواتهن تأييدًا للمجاهدين الأبطال ، ولانتفاضات أهل غزة وأهل الضفة وهم جميعا يجالدون هذا العدو الغاصب ، ويسخرون من مدرعاته وصواريخه وكل أسلحته التدميرية ، فنساء فلسطين إنهن بحق حفيدات سمية والخنساء وأم عمارة وغيرهن الكثير من الصحابيات المؤمنات الطاهرات . ولعلنا لاننسى قول تلك المرأة الشاهدة على المجازر الوحشية ... قولها للشهيد الذي كان صديقا لابنها الذي سبقه بالشهادة : يابني أيها الشهيد الحبيب بلِّغ سلامي إلى ابني الذي سبقك بالشهادة ، وهو الآن عند الله سبحانه وتعالى . وأحب أن أنقل إلى مسامعنا بعض ما قاله آباء الشهداء أو أمهاتهم
في بيئة الشهداء المقدسة : إحداهن رأت ابنها في المنام وهو يودعها ، والأخرى مازالت ترى ابنها عيانا في جنبات منزلها ، وأخرى تقول لابنها الرضيع الشهيد : قم يابني قم ارضع ودموعها تنساب من عينيها ، وأما أم الشهيد علي صافي فتعكف على كتابة قصيدة تخلد الذكرى الأولى لاستشهاده... تقول في مطلعها : يا علي كم تمنيت أن احتضنك قبل الفراق كي تبقى رائحتك معي... ففي قلبي غصة لا يتسع لها المدى . ونحن نقول لهن أجمعين : أعانكنَّ الله وصبَّركنَّ على فراق أكبادكنَّ ، ونسأل الله أن يجمعكنَّ بهم في جنات الخلود في مقعد صدق عند مليك مقتدر . ألا وليسجل التاريخ قول مَن قال فيهن : ( ما أجمل صبركن.. وما أروع صمودكن.. فمنكن نأخد القوة ونتعلم معنى الحياة..دموع لا تتوقف وصرخات لم تنقطع، جثث هنا وأشلاء هناك، هكذا حال بعض مناطق فلسطين، وفي القلب منها مدينة غزة المحتلة، التي دمرها الجيش الإسرائيلي، فتحولت من أجمل المدن إلى ركام وبقايا منازل، لتبكي الملايين حول العالم، وسط صمود الأهالي الذين يواجهون قذائف وصواريخ قوات الاحتلال بالصبر والصمود. ( وننقل أيضا قول الشاب الفلسطيني علي جاد الله لنرى قسوة المأساة ، وقوة الصَّبر الذي يتسلح به أهالي الشهداء وإنَّه : ( لصوت يعكس حزنه على ما وصلت إليه غزة، وعدم وجود سيارة إسعاف، وعدم وجود أشخاص للعزاء أو الدفن، قال الشاب الفلسطيني علي جاد الله عبر مقطع فيديو مؤثر انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي : ( الحمد لله رب العالمين إحنا وصلنا لمرحلة كارثية لدرجة أني رايح أدفن أبويا بسيارتي الخاصة، لا في إسعاف ولا ناس تطلع ولا ناس تدفن، الله يرحمك يابا بتمنى منكو تدعو للحاج أبو علي جاد الله، ما شاء الله سمعته زي الفل، الكل بيحبه، الكل كان بتمني يجي يحضر جنازته، بس الظروف منعتهم.. الله يسترنا من اللي جاي) وبعد نشر قصته تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي الجُمل من حديثه، ضمن مواقف مؤثرة توثق معاناة الأسر في قطاع غزة .إنها الجُمل الملونة بالدم الأحمر النقي ، والآهات التي نمَّقتْها الكارثة التي قلما شهد مثلها تاريخ البشر . إنها العبارات الساخنة التي أبكت الناس كل الناس على وجه هذه الغبراء التي يعيش في أرجائها البشر كل البشر في هذا العصر الكئيب .
وسوم: العدد 1080