العراق: المطالبة برأس أبي جعفر المنصور

لم يزل السجال العراقي محتدما رسميا وشعبيا حول تمثال رأس أبي جعفر المنصور المنصوب في إحدى ساحات بغداد. متطرفو الشيعة يطالبون برفعه لأنه قتل الإمام جعفر الصادق غيلة (ولد 80 هـ في المدينة المنورة وتوفي فيها سنة 148 هـ). وللصادق، وهو الإمام السادس لدى الشيعة الإمامية، منزلة كبيرة ومميزة عن باقي أئمة الشيعة، حتى تسمى المذهب باسمه، إذ يطلق على الشيعة الإمامية اسم المذهب الجعفري، وتحكي روايات الشيعة أن الخليفة العباسي المنصور، الذي كان شديدا على خصومه ومعارضيه، ضيّق على الصادق كثيرا، حتى سلط في النهاية عليه من دس له السم فمات مسموما.

لكن المنصور من جانب آخر يعد واحدا من خلفاء بني العباس، الذين حققوا إنجازات كبيرة أبرزها، انه مؤسس المدينة المدورة، التي عرفت باسم دار السلام، والتي بنيت على أنقاض قرية بابلية قديمة عرفت باسم (باغ داد)، واتخذ من المدينة الجديدة عاصمة لملكه، الذي حكم فيه ثلث مساحة العالم القديم، الممتد في آسيا وافريقيا وبعض الأجزاء في أوروبا، ما يعني أن بغداد العباسية أصبحت في تلك الحقبة عاصمة الدنيا.

وقد رأت الحكومة العراقية نهاية سبعينيات القرن الماضي إقامة نصب لمؤسس المدينة في المكان الذي قيل إن المنصور وقف فيه وأعلن اختياره لتلك البقعة المميزة وسط العراق، ليبني فيها عاصمته الجديدة، وهذا المكان في كرخ بغداد، غرب نهر دجلة، الذي أصبح في بغداد الحديثة حياً عصريا أنشئ في الضاحية الغربية لبغداد الملكية، وقد أطلق عليه اسم الخليفة المؤسس، ليصبح حي المنصور واحدا من أحياء بغداد الراقية منذ خمسينيات القرن الماضي. وتم تكليف النحات العراقي خالد الرحال بتنفيذ النصب البرونزي، وقد صرح في لقاء صحافي قديم قائلا عن هذا التمثال، «كان المخطط الأصلي لتمثال أبي جعفر المنصور أن يكون حجمه كبير جدا، والفكرة شبيهة بنصب الحرية في نيويورك، وأن يوضع على منصة كونكريتية وسط نهر دجلة من جهة الراشدية أو الكريعات، شمال بغداد، بحيث يستطيع الناس الدخول إليه والصعود حتى منطقة العينين، ومشاهدة بغداد من خلال عيني تمثال أبي جعفر المنصور، لكن لظروف مالية أو تقنية لم تتحقق الفكرة، واقتصر الأمر على نحت رأس التمثال الموجود في حي المنصور ببغداد والذي ازيح عنه الستار في 6 كانون الثاني/يناير عام 1977 بمناسبة عيد تأسيس الجيش العراقي». التمثال المنفذ كان عبارة عن رأس رجل ملتح يضع العمامة التقليدية، وقد وضع على منصة كونكريتية عالية في ساحة حملت اسم ابو جعفر المنصور، وكان حصة هذا النصب الغضب والكراهية المفرطة منذ الأيام الأولى لإطاحة نظام صدام حسين، مع صعود نجم الشيعة السياسي في عراق ما بعد 2003، إذ صرح عدد من سياسيي الشيعة بأن هذا النصب تحد لمشاعر الأكثرية الشيعية في العراق، ولا يجوز إقامة نصب لرمز من رموز معاداة التشيع وقاتل أهم أئمتهم. وبعد حملة إعلامية وشعبية هاجمت النصب وصاحبه، واتهمته بأنه سفاح تاريخي يجب عدم الاحتفاء به، نُفذت عملية تدمير ممنهجة للنصب عبر تفجيره بعبوات ناسفة زرعت حول قاعدته الكونكريتية في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2005، ولم تعلن حينذاك أي جهة مسؤوليتها عن تنفيذ التفجير، لكن الطريقة والهدف الذي أصابه التفجير، يشير بوضوح إلى أن المنفذين هم فصائل شيعية مسلحة. وبقي التمثال البرونزي المتضرر مركونا في مخازن أمانة بغداد لمدة ثلاث سنوات، حتى أعيد ترميمه ونصبه في مكانه مرة اخرى في حزيران/ يونيو عام 2008 بعد أن تم بناء قاعدة جديدة للتمثال.

اعتبر البعض أن الأزمة قد مرت، لكن يبدو أن مشعلي الصراعات الطائفية يجدون في (رأس أبي جعفر المنصور) موضوعا مثاليا لإثارة النزاع وافتعال الأزمات، فإذا مرت أزمة رأس أبي جعفر، سيتم الانتقال إلى رموز أخرى بالتأكيد، فالشارع الأول في بغداد الحديثة هو شارع الرشيد الذي يمثل قلب بغداد، والرشيد كما يعتقد سياسيو الشيعة هو قاتل الإمام السابع موسى الكاظم بالسم في محبسه في بغداد، وبالتالي يجب أن يغير اسم الشارع، وكذلك حي المأمون الذي يحمل اسم الخليفة العباسي الذي ارتبط اسمه بأزمة مع الإمام الثامن علي بن موسى الرضا، وهكذا الحال مع كل اسم يحمل نكهة عباسية، سيتم الاحتجاج عليه.

وإذا قارنا بين العراق ودول الجوار، سنجد أن الكثير من الرموز التاريخية يُحتفى بها بغض النظر عن المواقف والتوجهات السياسية التي تحكم هذه البلدان الان، وهذه سوريا، التي يحكمها نظام الأسد الاب والابن منذ نصف قرن، وهو نظام يشار له بأنه شيعي علوي، وحليف استراتيجي لإيران، رمز التشيع في المنطقة، ومع ذلك نجد رموز الحقبة الأموية والعباسية منتشرة في مختلف أرجاء العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية، دون أن يثير ذلك حساسية أحد، فساحة العباسيين في قلب دمشق، وأكبر ملعب في دمشق، هو ملعب العباسيين الدولي، والعديد من الشوارع والساحات التي تحمل أسماء عباسية وأموية موجودة وباقية من دون أن يثير ذلك حساسية طائفية. كذلك قارن البعض بين وجود الجامع الأزهر في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في مصر ذات الأغلبية السنية، فهي تاريخيا عاصمة التشيع الفاطمي، إبان عز الدولة الفاطمية، وفيها الجامع الأزهر، رمز التشيع ومنارته على مدى قرون، ومع ذلك لم يدع أحد إلى اقتلاع هذه الرموز الشيعية في مصر السنية لأسباب طائفية. كما تجدر الإشارة إلى نزاعات الحلفاء في العراق، فالشارع يطالب الحكومات التي يقودها رؤساء شيعة منذ 2005 حتى الان بتحسين الخدمات واستتباب الأمن والشروع في عمليات تنمية حقيقية، مع غياب ترف الاعتراض على مسميات الشوارع والميادين، لذلك ومع شروع حكومة السوداني بخطوات على طريق الاستقرار وتحسين الخدمات، أثيرت مشكلة رأس أبي جعفر المنصور مجددا، وعلت الأصوات المطالبة بإزالته عبر قنوات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لإحراج حكومة السوداني.

الخلاصة هي أن الإسلام السياسي لا يمكن أن يعتاش إلا على نزاعات ماضوية يحاول جرها إلى الحاضر وإلباسها لباس الحداثة، فسنرى صراعات الماضي التي يتم تأجيجها بين الحين والآخر في بلد ملغوم بالاختلافات مثل العراق، وما رأس أبو جعفر المنصور إلا نقطة صغيرة من رأس جبل الجليد الذي يغطس أغلب نزاعاته الماضوية تحت ركام الأحقاد، التي يمكن أن تفعّل في أي لحظة استفزازا يمكن أن يفجرها هذا الطرف أو ذاك. إن التعامل العقلاني مع الحدث يعني اولا عدم جر صراعات التاريخ السياسية والعقائدية وإسقاطها على الحاضر، لأننا عبر هذا المسار سنخسر الماضي ونخسر الحاضر ونخسر حتى المستقبل الذي سيبقى رهين صراعات مرّت عليها مئات السنين.

وسوم: العدد 1080