الطبيب عدنان البرش: حياتي من دوني
لا تغيب عن مخيّلتي حكاية الطبيب الغزي عدنان البرش، الذي استشهد تحت التعذيب في سجن إسرائيلي، إثر اعتقاله من مكان عمله في مشفى «العودة» في غزة، وكان قد سلّم نفسه بعد نداء من قوات إسرائيلية تحاصر المكان، مع تهديد بقصفه إن لم يسلّم نفسه.
تروي زوجته أنه اتصل بها، ليقول إنه لن يكون سبباً في قتل أرواح بريئة. منذ ذلك الحين، أي منذ كانون الأول/ ديسمبر 2023، لم يعد أبو يزن إلى بيته في جباليا، ولم تعد زوجته ياسمين وأولاده الستة يحلمون سوى بقبر لائق له في شمال غزة، لا في الجنوب، بقبر وشاهدة لائقة، لا في مقبرة الأرقام.
الطبيب الأسطورة لم يهدأ طوال فترة الحرب، تنقّل من مشفى لآخر، من «الشفاء» إلى الأندونيسي، إلى «العودة»، رافضاً أوامر الإسرائيليين بالنزوح مع النازحين جنوباً، أصرَّ أن يبقى إلى جانب مرضاه، مردداً في كل مرة: «لقد أقسمت قَسَمَ الطب»، لمن أترك الجرحى؟
عمل تحت الحصار والقصف، في الظروف التي نعرفها جميعاً، بل عَمِلَ وهو مصاب، قبل أن يذوق عذاب السجن والتعذيب، ثم يسلم الروح في سجن عوفر في 19 نيسان الماضي.
كان الطبيب الغزي اسماً لامعاً، على الأقل أثناء الحرب الجارية، فهو رئيس قسم العظام في مجمع «الشفاء» الطبي، وتحدث لقنوات تلفزيونية وصحف مرات عديدة، ناشدَ، وشرح، حتى قبل أن تنتشر تلك الصورة، الإغفاءة، التي التقطها له زملاؤه في خضم عمله في المشفى، غفوة مسروقة بين عملين جراحيين: جلس الطبيب على كرسي، بمريوله الأبيض الملون بدم الجرحى (وعذاباتهم أيضاً)، وقفازاته، وغطاء الرأس، فغفا. فكانت الصورة التي تستحق أن تسمى باسمٍ تاريخيّ، على غرار عمل فني عابر للأزمان؛ كالصرخة، أو استراحة المحارب، أو درس في التشريح، أو ضمير العالم، أو حلم العقل، أو قَسَم أبي قراط..
كان تحت الضوء بما يكفي ليكون لديه، ولدينا، قصة كاملة عن حياته وحياة عائلته ونضاله، بل إن جولة في حسابه على «إكس» (تويتر) ستأخذك إلى فيديو ساحر له، حيث تصوّره الكاميرا يسبح على نحو احترافي للغاية (هل كان بحر غزة؟)، مع عبارات مرفقة مكتوبة يتحدث فيها لمتابعيه عن ضرورات الرياضة، إذ يقول: «لا تمارس الرياضة لإنقاص الوزن، أو كسب العضلات، أو إظهار عضلات البطن، بل لكي تستطيع اللعب مع أطفالك عندما تكبر، مارس الرياضة لكي تستغني عن العكاز عندما تكبر».
في إحدى مقابلاته، التي استُعيدت بكثرة إثر استشهاده، يحكي الطبيب، ويتخيّل على أي نحو كانت ستمضي حياته لو لم تكن هناك حرب، وفي الإمكان أن نتخيل نحن معه أيضاً: مؤتمر طبي في جنيف، ويوم في نيويورك..
هنا قررت أن أسأل «تشات جي بي تي» (برنامج الذكاء الاصطناعي الشهير) عن رحلة لطبيب من غزة، يخطط، في حال لم يكن بلده غارقاً في حالة حصار وحرب، لجولة تشمل زيارات عمل وسياحة لأكثر من بلد في مشوار واحد، فاقترح برنامج سفر يجمع بين التعليم، والتواصل المهني، واكتشاف ثقافات جديدة في برنامج قد يستغرق 10 أيام يشمل السفر إلى المملكة المتحدة، فرنسا، وإيطاليا.
اقترح زيارات للندن، وفيها سيزور مؤسسات طبية مرموقة مثل مستشفى سانت توماس وكلية لندن للطب. حضور ورش عمل أو ندوات تعليمية.
جولة سياحية لزيارة متحف البريتيش، جسر لندن، وعين لندن.
أما في باريس، فاقترح زيارة إلى معهد باستور، ومشاركة في ندوة حول التقدم في أبحاث الطب البيولوجي. تليها جولات في مستشفيات باريس لمشاهدة التكنولوجيا الطبية المتقدمة. وبالطبع بعدها استكشاف الأماكن السياحية مثل برج إيفل، متحف اللوفر، ونهر السين.
في روما، إيطاليا، من اليوم السابع إلى التاسع من الرحلة زيارة الجامعة الطبية في روما، والمشاركة في ورش عمل حول الطب القديم والحديث، ثم مقابلات مع خبراء إيطاليين في مجالات طبية محددة. ليختم بجولة سياحية لزيارة الكولوسيوم، الفاتيكان، وساحة نافونا.
وفي اليوم العاشر: العودة إلى غزة.
سألت برنامج الذكاء الاصطناعي أي هدايا يمكن حملها لزوجته وأولاده الستة الذين ينتظرونه في غزة؟ فاقترح عطراً من لندن من إحدى العلامات التجارية البريطانية الفاخرة، أو شالاً كشميرياً أنيقاً. ومن باريس قطعة مجوهرات فرنسية راقية، أو حقيبة يد من ماركة مشهورة. ومن روما عبوة من زيت الزيتون الإيطالي الفاخر أو مجموعة من الشوكولاتة الإيطالية الحرفية.
أما للأولاد، فجاءت الهدايا متنوعة بين قمصان رياضية تحمل شعارات الأندية الإنكليزية. ومن باريس: كتب بالفرنسية أو الإنجليزية حول تاريخ باريس أو العلوم. ومن روما: نماذج مصغرة للكولوسيوم أو الفاتيكان.
وللأصغر سنًا: ألعاب تعليمية أو دمى مستوحاة من شخصيات الكتب البريطانية مثل هاري بوتر. ولعب الألغاز التي تصور معالم باريس المشهورة.
وألعاب خشبية إيطالية أو مجموعات فنية للأطفال.
سألته إن كان جاداً بخصوص «عبوة زيت الزيتون الإيطالي»، فالفلسطينيون لا يستبدلون زيت زيتون بلادهم بأغلى ما في الكون، وغالباً سيكون الفلسطيني قد حَمَل إلى أصدقائه في لندن وباريس وروما من زيتون بلاده. اعتذرَ، وتلعثمَ وشكرني للتوضيح: «لقد كان ذلك اقتراحًا غير مناسب في السياق الفلسطيني، حيث يعد زيت الزيتون الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من التراث والفخر الوطني».
واقترح بدلاً من ذلك منسوجات إيطالية، مثل وشاح حريري أو ملابس من الكتان الإيطالي الفاخر، حلي فنية، تعكس الحرفية الإيطالية، أو كتب عن الطبخ الإيطالي.
غير أن رحلة الطبيب الغزي لم تحدث، ولن تحدث، فالطبيب الأيقونة فضّل ليس فقط أن يبقى وفياً لقَسَم أبي قراط، أبي الطب، في القطاع المحاصر، بل في شماله الأكثر عرضة للقصف والتدمير. قريباً من جباليا، الأسطورة الفلسطينية الأخرى، مهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
لم تحدث الرحلة، لا لأن الطبيب الفلسطيني أقل ولعاً بالحياة، فهو الذي كان يعلّم الناس كيف يعيشون أصحاء وسعداء في أعمارهم المتقدمة.
لا شك أن عدنان البرش كان يخطط للعيش خمسين عاماً أخرى، لكن أنىّ يكون ذلك وفي الحياة إسرائيل وتوابعها!
كان الطبيب الشهيد اسماً لامعاً إذن، فامتلكْنا حكايته، وها نحن أيضاً بتنا نعرف حكايته الموازية، الافتراضية، حياته التي كانت ستكون لولا الاحتلال، لكن هناك 500 طبيب وأفراد في الطواقم الطبية استشهدوا في الحرب، لا نعرف عنهم شيئاً. أو لعلنا نعرف القليل. لدينا 500 حكاية موازية، 500 حياة، وصولاً إلى حياة 36050 شهيداً، على الأقل.
إنها غزة الأخرى، التي كانت ستكون لولا إسرائيل هذه.
وسوم: العدد 1081