قدر أسماء الأسد
جاء حاسماً، أمس، نَشْرُ وكالة أنباء النظام السوري لخبر تحت عنوان «دعوات وصلوات لشفاء السيدة الأولى أسماء الأسد مبادرة لجرحى محافظة طرطوس». إذ قال الخبر، في التفاصيل، إن «عدداً من جرحى المحافظة توجهوا إلى كلٍّ مِن جامع السيدة خديجة، وكنيسة «مار دانيال» للروم الأرثوذكس، لإقامة الصلوات والتضرع بالدعاء على نية شفاء السيدة الأولى أسماء الأسد، مع بدء رحلة علاجها من مرض الابيضاض النقوي الحاد- اللوكيميا» .
لوكيميا أسماء الأسد فتحت النقاش مجدداً، والتوقعات حول المصير الذي يتمناه لها السوريون، ضحايا النظام خصوصاً، وبالتالي حول دورها ووظيفتها ضمن ماكينة النظام المتوحشة
فالأهم من هذه الخطوة نحو تطويب زوجة رأس النظام إلى ما يقرب من مصاف القديسين، أن وكالة الأنباء الرسمية تبنّت الخبر بصيغته التي نحسب أنها نادرة الوجود في تاريخ إعلام النظام السوري، الذي لا يعرف عادة سوى «قديس» وحيد (وما دامت الوكالة قد تبنّت الخبر فمن المتوقع أن نشهد زحاماً في نشرات الأخبار لتغطية صلواتٍ وحجيجٍ شعبي «عفوي» للدعاء للسيدة السورية المريضة).
الخبر حاسم، لأنه يدحض كل السيناريوهات التي قيلت غداة إعلان نبأ الإصابة بالمرض. حتى ذلك الفيديو الذي ظهرت فيه الأسد، بعد احتدام الافتراضات بعزلها، أو حتى قتلها، لم يقلع العين تماماً، وترك هامشاً، مهما صغر، للشك، ولمن سيقول إن في الإمكان إجبارها على هذا الظهور المتلفز، فهو (الفيديو) جاء بمثابة بيان سياسي مشغول بالرد على الشائعات، ولم ينسَ أن يُظهِر طرف صورةٍ عائلية وراء مريضة القصر تأكيداً على لحمة العائلة، أو لعل الفيديو مزيفٌ بعمق، خصوصاً أن عبارات الخطاب مقطعة بشكل روبوتي على نحوِ ما نشاهد في الشخصيات المصنوعة ببرامج الذكاء الاصطناعي. فوق ذلك بدت الأسد صلبة على نحو لافت؛ لا دمعة، ولا حشرجة صوت، ولا حتى رمشة عين، تأكيداً على أن الديكتاتوريين (والديكتاتوريات) لا يبكون، لا تدمع لهم عين. لنتذكر المغنية العذبة سيلين ديون وهي تعلن، في فيديو، وبتأثّر بالغ ودموع، إصابتها بمتلازمة الشخص المتيبس.
لوكيميا أسماء الأسد فتحت النقاش مجدداً، والتوقعات حول المصير الذي يتمناه لها السوريون، ضحايا النظام خصوصاً، وبالتالي حول دورها ووظيفتها ضمن ماكينة النظام المتوحشة، إلى أي حدّ ساهمت بارتكاب الجرائم، أو روجت لها، أو ساهمت بتبريرها.
وفي الواقع، مهما كبّر المرء عقله، لن يتمكن من تجاوز التفكير، في لحظات، وبراءة الأطفال في عينيه؛ يصعب مثلاً تخيل شخص متعلم في أرقى الجامعات، يرتدي أفضل الماركات، ويشاهد أفلاماً جميلة قد يبكي لها، أو يهيم مع أبطالها الهائمين، وقد يكون هو نفسه مغنياً أو عازفاً رومانسياً، ثم يرتكب، مباشرة، أو مواربةً، جرائم لا تحصى، هل يرتكب المرء فعلاً جريمة مع وعي كامل بأنها جريمة، أم أنه يرى فيها مَعبَراً لا بد منه لفعل الخير، ضريبة من أجل حياة الملايين، أم أنه يبتكر أساليب لإشاحة نظره عنها، أو لاتخاذ وضعية المزهرية!
ألم يصل أنين السوريين إلى مسامعها؟ السجناء والمعذبين والمنفيين، حتى قبل أن تقوم الثورة في بلدها؟
مثالي المفضل هو الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، من في إمكانه ألا يعجب بكاريزماه واستثنائية حضوره وأدائه؟ هذا هو الرجل هو نفسه من ارتكب جريمة مفصلية في السياق السوري، عندما باع الضحايا السوريين باتفاق نووي مع إيران، ويسجل عليه استمرار الأسد في الحكم بعد أن كان على وشك الانهيار، ليشهد العالم بعدها سنوات مستمرة من الجريمة. أين الغرابة في ذلك؟ هذا الرجل، جاهز، كأي رئيس أمريكي، للكبس على زر نووي، واضح أنه لن يكون في هذا الموقع من دون استعداده لذلك.
يمكن للمرء أن يتفهّم أسماء الأخرس حتى سنوات قليلة فقط بعد اختيارها الزواج من «عريس لقطة» ألقى به القدر في طريقها، فأي بنت في العالم بإمكانها أن تردّ ابن رئيس! ولعلها لاحظت مشاكل عديدة في شخصية العريس، إذ هنالك أشياء يستحيل أن يعمى عنها قلب، لكنها ربما قالت لنفسها إن منافع هذه الزيجة أكثر من أن يتوقف المرء عند عيوبٍ شخصية لدى العريس، وربما قرأت تاريخ بلدها جيداً فيما تبيّت استخارتها الخاصة حول قرار الزواج، وانتهت إلى أنها يمكن أن تأخذ البلد، مع رئيس واعد وطموح لا تغيب عن حديثه لحظة كلماتُ الإصلاح والتطوير، نحو مستقبل مشرق يشبه عالمها البريطاني، يسجل في الكتب وصفحات المجد. لكن بعد ذلك؟ ألم يصل أنين السوريين إلى مسامعها؟ السجناء والمعذبين والمنفيين، حتى قبل أن تقوم الثورة في بلدها؟
يستحيل بالطبع ألا تعرف السيدة السورية، وهي الأولى، ما يجري حولها، إنها تسكن بالضبط في عش الأفرع الأمنية، وليس من المستبعد أن ينتهي أحدها إلى فتحة في قبو البيت.
الاحتمال الوحيد ليس عدم معرفتها، بل تمسكها بروايات مألوفة في الدفاع عن أساليب الحكم الديكتاتوري، إننا نسمع حججاً من هذا النوع حتى من أناس يعيشون في قلب العالم الديمقراطي، بأن لا بدّ من الحكم القاسي أحياناً وإلا فلتت الشعوب على هواها، فما بالك إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، وقد تكون هنا تارة قضية فلسطين، وتارة وحدة البلاد، وتجنّب الحروب الطائفية، أو حتى مستوى الجريمة الجنائية المتوقع في بلاد «لا تليق بها الديمقراطية».
محكمة عادلة ستكون أرحم ألف مرة من لحظة القبض على الرئيس الروماني المقبور نيقولاي تشاوشيسكو، مع زوجته، حيث جرى إعدامهما ميدانياً
غير أن كل ذلك لا يفيد أمام محكمة عادلة، هذه التي ستكون أرحم ألف مرة من صورة شهيرة تداولها السوريون أخيراً للحظة القبض على الرئيس الروماني المقبور نيقولاي تشاوشيسكو، مع زوجته، حيث جرى إعدامهما ميدانياً إثرها.
كان يمكن للمريضة السورية بتعديل طفيف على مسيرتها، في مرحلتها اللندنية، أن تكون خارج ذلك كله؛ سيدة أعمال مرموقة، أو قاضية في محكمة دولية تطارد الجناة الدوليين، أو مصرفية تدير مشاريع ريع معظمها لضحايا الطغاة المتوحشين من أمثال زوجها، أو حتى بتعديل في مرحلتها السورية، فقد كان في الإمكان أن تعلن انشقاقها على نحو ما فعل أصدقاء ورفاق مقربون جداً من رأس النظام، أو كما فعلت زوجة حاكم عربي عندما هربت مع طفلها وقاضت زوجها المتجبر في لندن وكسبت الدعوى.
غير أن كل ذلك لم يحدث، ينشق رامي مخلوف نفسه (الذي يعتبر خلاصة النظام)، ولا تنشق السيدة الأولى، وأساساً بعد كل هذا أيّ انشقاق يفيد!
كذلك، لا يخلو من معنى أن من يصلي اليوم من أجل أسماء الأسد هم جرحى طرطوس، أي أولئك المصنّفون على قائمة جرحى جيش النظام،.. دفعة أخرى إلى الهاوية.
وسوم: العدد 1082