من فوات المفسِّرين والمحقِّقين! (قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة!)
-1-
من أمثال العَرَب قولهم: «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ». قال (أبو هلال العسكري، -395هـ= 1005م)(1): «معناه: اِعْجَلْ. وهو من الكلام الذي قد عُرِف معناه سماعًا من غير أن يَدلَّ عليه لفظُه. وهذا يَدلُّ على أنَّ لُغة العَرَب لم تَرِد علينا بكمالها، وأنَّ فيها أشياء لم تعرفها العلماء.» وأقول: هذا كلامٌ غريب، بل غريبان: أوَّلًا، لشرح المَثَل لدَى العسكري بأنَّه يعني: اعْجَلْ، تحديدًا؛ وثانيًا، لزعمه أنَّه غير مفهومٍ لفظًا. ثمَّ جاءنا حديثًا (شوقي ضَيف، -2005)(2) فتابع بقوله، وهو يتحدَّث عن أمثال العَرَب في الجاهليَّة: «ولا بُدَّ أن نلاحظ أنَّ بعض أمثالهم يخفَى المعنى المراد منه، ومن أجل ذلك كان لا يُفهَم إلَّا بالرجوع إلى كُتب الأمثال، كقولهم: «بعَيْنٍ ما أرينّك» [كذا، ولم يضبط الفعل بالشَّكل؛ ليزداد إشكالًا!]؛ فإنَّ معناه: أسرِعْ، وهو معنى لا يتبادر إلى السامع من ظاهر اللفظ، ومن ثمَّ علَّق عليه أبو هلال العسكري بقوله:...». وهذا الزعم هو من عقابيل الثقافة الاتِّباعيَّة بلا تدبُّر! وإنَّما معناه، كما ذكرَ (الميداني، - 518هـ= 1124م)(3): «اعملْ كأنِّي أَنْظُرُ إليك.» ولقد كنتُ ممَّن يسلِّم بغموض معناه، بناء على كلام العسكري ومتابعة ضَيف، حتى تبيَّنتُ ضبطَه لدَى (الميداني)، وأنَّه «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ». على حين أورده لنا ضَيف غير مضبوطٍ، ما قد يذهب بالقارئ إلى أنه «بِعَيْنٍ ما أُرِيَنَّكَ». غير أنَّ معناه ليس محصورًا في معنى: اعْجَلْ أو أَسْرِعْ، كما فسَّره العسكري، بل معناه: يا فلان، إنِّي أراكَ بعَينٍ ما، إنْ لم تكن الباصرة، فبعَين البَصيرة والقَلب؛ فتنبَّه، وأَحسِنْ عملَك كأنِّي أَنْظُرُ إليك، كما ذكرَ الميداني. ونحو هذا المَثَل يتردَّد في تعبيراتنا الشعبيَّة، كمثل قولنا، محذِّرين أحدًا من الإهمال أو من الغش: «أنا شايفك، يا فلان!» إذن، ما سِرُّ التهويل من غموض مَثَلٍ عَرَبيٍّ مألوفٍ كهذا، سِوَى غفلةٍ قديمةٍ تُتوارث، حتى يَكُفَّ العقلُ عن مراجعتها؟! نعم، لقد شرحَه الميداني بعبارةٍ سليمة، وإنْ زعمَ، هو الآخَر، أنَّ معناه الأمر بـ«ترك البُطْء»؛ فقال: «يُضرَب في الحثِّ على ترك البُطْء.» وهذا كذلك من العقابيل القديمة لثقافة النقل بلا جرأةٍ على المراجعة ولا تدبُّر! ذلك أنَّ الميدانيَّ قد نقل عن العسكري- في ما يبدو- حصره المعنى في الأمر بالعَجلة أو الإسراع. وما هو، في رأيي، إلَّا مَثَلٌ يُضرَب في الحثِّ على ترك الإهمال عمومًا، أو الغِش في العمل إجمالًا، كما بيَّنَّا. أمَّا تحليل الميداني مركَّب المثل، فجاء فيه: «و(ما) صِلة دخلتْ للتأكيد، ولأجلها دخلتْ النون في الفعل. ومثله: ومن عَضَةٍ ما يَنْبُتَنَّ شَكِيرُها.» ويُلحظ أنَّ المؤلِّفين، قديمًا وحديثًا، ظلُّوا مشغولين بشرح كلمة (شكير) هاهنا، وقلَّما التفتوا إلى ضبط كلمة (عضه)، أو شرحها. والواقع أنَّ نِصف اللُّغة العَرَبيَّة يضيع جرَّاء الضبط بالشكل، والنِّصف الآخر يضيع جرَّاء الإعجام، ولمَّا يقيِّض الله لها بَعْدُ مَن يَفُكُّ طلاسمها التاريخيَّة تلك، التي نشأت منذ معركة الإعجام والشكل، خلال القرن الأوَّل والثاني الهجريَّين، أيَّام (أبي الأسود الدؤلي، -69هـ)، و(نصر بن عاصم اللَّيثي، -89هـ)، و(يحيى بن يعمر الوشْقي، -129هـ)، ثمَّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي، 170هـ)! فما (العَضَة)، حسب ضبط (الميداني)؟ بل أهي (عَضَة)، أم (عِضَة)، أم (عِضَه)؟ هي (عِضَهٌ)، بالهاء- كما نُرجِّح- من (العِضاه)، وهو كلُّ شجر ذي شوك. غير أنَّ اللغويِّين يضيفون أنَّها تُسمَّى أيضًا: (عِضَة)، و(عِضْهة). أمَّا الشَّكير، فما ينبت من أصول الشجر. ومعنى ذلك التعبير- وهو شطر بيت، فيه حِكمة، وليس بمَثَل، بالمعنى النوعي لجنس الأمثال(4)- أنَّ معظم الشيء ينشأ من مستصغره، والعكس كذلك. ولعلَّنا نضيف في معنى المَثَل المُشكِل «بِعَيْنٍ ما أَرَيَنَّكَ» ظِلالًا دلاليَّةً أخرى: أنْ ربما صحَّ القول: إنَّ (ما) تتضمَّن معنى الإبهاميَّة، التي تأتي صِفَةً لما قبلها، مقترنةً بالنَّكِرة لتزيدها عموميَّةً، أي: بعَينٍ غير معيَّنةٍ أراكَ، وإنْ لم ترني. وهو ما يقع في التحذير موقعًا أبلغ؛ كيلا يحسبنَّك المخاطَبُ غافلًا عمَّا يفعل. إلَّا أنَّ النون في «أَرَيَنَّكَ» ستصبح، وفق هذا الفهم، محلَّ نظر.
وبذا يبدو أنَّ التساؤل عن مدَى عِلم أعلام تراثنا باللُّغة العَرَبيَّة، أو قُل مدَى ذوقهم اللُّغوي، قد يشمل بعض المشتغلين بها أيضًا، أمثال (أبي هلال العسكري)، صاحب «الصناعتَين». وما من أحدٍ فوق أن يُؤخَذ من كلامه ويُرَد؛ فجلَّ من له الكمال والجمال، على كلِّ حال!
-2-
وبالعودة إلى ما سبق في المقال الماضي من حديثٍ حول المفسِّرِين، فإنَّ (الطَّبري، -310هـ= 922م) كان أحسن حالًا من (ابن كثير، -774هـ= 1373م)، السابق التوقُّف مع تفسيره، وإنْ كان بدَوره أستاذ المفسِّرين في النقل والإسرائيليَّات وحشو الكتب بالروايات، أنَّى وجدها التقطها. فقد جاء الطَّبري(5) قائلًا: «وقوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه : فآمنَّا به ولن نُشرِك بربِّنا أحدًا ، وآمنَّا بأنه تعالى أمرُ ربِّنا وسُلطانه وقُدرته.» ثمَّ انخرط في سلسلة من المرويَّات، من حدَّثنا إلى حدَّثنا... حتى أضاف: «وقال آخرون: عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجنِّ.» وما هو بجَهْلَةٍ من كلام الجنِّ، بل هو عربيَّةٌ من كلام الإنس، كما أوضحنا في المساق السابق! هذا على الرغم من أن الطَّبري لم يورد ما نسبه ابن كثير إلى (ابن عباس)، بل روى عنه رواية أخرى، هي: «حدثني محمَّد بن سعد، قال... عن ابن عباس، قوله: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا» يقول: تعالى أمر ربِّنا.» غير أنَّ الطَّبري قد عاد- بعد طول مطال- إلى كلام العرب، ورجَّحه. وقد أحسن في هذا؛ لأنَّ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، وليس بلسان جِنِّيٍّ عَيِيٍّ جاهل! وذلك خيرٌ من صنيع ابن كثير، الذي أوجز إيجازًا بدا مُخِلًّا وموهِمًا. على أنَّنا لا نجد محقِّق تفسيره قد توقف ليعلِّق على هذا. أ ذلك عن إهمال معتاد؟ أم عن جهل؟ أم عن تقديسٍ للسَّلف، وتصوُّر أنه لا ينبغي أن يُناقَشوا، فضلًا عن أن يُردَّ كلامهم أو يُستدرَك عليه؟(6)
إنَّ هذا التفسير يذكِّرنا بطُرفة انتشرت عبر بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي منذ حين لأحد المتحذلقين، حذَّر فيها من القول في الدعاء: «تبارك اسمُك وتعالى جَدُّك»؛ فقال: «لا تقولوا: «تعالى جَدُّك»، والعياذ بالله، بل «تعالى جِدُّك»، بكسر الجيم؛ لأن الله ليس له جَدٌّ»!
واستطرادًا في شأن استعمال كلمة (الجَدِّ) في لغة العَرَب، فقد كان من آلهة العَرَب الشماليِّين إلهٌ اسمه (جَد)، يُعَدُّ إله الحَظِّ والسَّعد. أُنثاه إلهة يسمُّونها (جدت/ جَدَّة). عُثِر على اسميهما في الكتابات الصفويَّة واللحيانيَّة بشَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة و(الأردن).(7) واسم هذا الإله الجاهلي مشتقٌّ من الجَدِّ بمعنى: الحظِّ والسَّعد وعلوِّ المكانة.
والواقع أن بعض من يبجِّلهم الخلَف من السَّلَف قد يبدون، عند التدقيق، أقرب إلى العوامِّ عِلميًّا، على فضلهم، ومكانتهم التأسيسيَّة في الثقافة الإسلاميَّة. وإنْ كان هذا الحُكم مرهونًا- في النهاية- بصِحَّة ما يُنسَب إلى أحدهم من مرويَّات. من شواهد هذا ما يستوقفك في ما يُنسَب إلى (مجاهد)- وهو: (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م). وكان يوصف بأنه من أعلم الناس، وله تفسير- إذ تقرأ عنه، مثلًا، في تفسير بعض آيات (سُورة الدُّخان): «قال مُجاهِد: «رَهْوًا»: طَريقًا يابِسًا، ويقال: «رَهْوًا» ساكِنًا. «على عِلْمٍ على العالمِينَ»: على مَن بَيْنَ ظَهْرَيْهِ. «فاعْتِلُوْهُ»: ادْفَعُوْهُ. «وزَوَّجْناهُمْ بِحُوْرٍ عِيْنٍ»: أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ. «تَرْجُمُون»: القَتْلُ.»(8) وبعيدًا عن اضطراب الكلام، وترتيب الآيات مع التفسير، فإن مجاهدًا لم يكن ليفهم معنى (الرَّهْو) في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ، وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(9)، بل قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى (سُورة طه: 77). وهذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ لأنَّ «يَبَسًا» في الآية الأخرى إنما تعنى: لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا.. وقالوا.. وقالوا... إلخ. مع أنَّ الكلمة ما برحت مستعملةً في بعض اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم بالمعنى الأقرب إلى المعنى القُرآني المُراد.
وفي مساق الأسبوع المقبل سنناقش معنى كلمة (رهوًا)، في ضوء اللهجات العَرَبيَّة الحديثة، التي حفظت لنا من العَرَبيَّة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1988)، كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، وعبدالمجيد قطامش، (بيروت: دار الجيل)، 1: 236، المثل 303.
(2) (2003)، العصر الجاهلي، (القاهرة: دار المعارف)، 408.
(3) (1955)، مجمع الأمثال، اعتناء: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (مِصْر: مطبعة السُّنَّة المحمَّديَّة)، 1: 100، المثل 494.
(4) كثيرًا ما يقع الخلط بين الأمثال والحِكم. حتى إنك لتجد كُتب الأمثال محشوَّةً بحِكَم على أنها أمثال. والصواب أنَّ المثَل: مقولة شعبيَّة تتكئ على حكاية ما، وغالبًا ما تكون مجهولة القائل.
(5) (2001)، تفسير الطَّبَري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 23: 312- 313، 315.
(6) وكم من سَلَفٍ يُقدَّس ليظهر بعد حينٍ أنَّ مقدِّسيه كانوا على ضلال مبين، وهذا لدَى الشعوب كافَّة. من ذلك، مثلًا، تقديس الإسبان سيِّدَ مدريد (سان إسيدرو المزارعLabrador San Isidro، -1130)، على أنه مسيحيٌ أوربيٌّ أبيض أشقر، «يُخزي العَين»، وكان يتبرَّك الملوك الإسبان بزيارة قبره، ثمَّ كشفت (جامعة كومبلوتنسي بمدريد)، 2022، عبر التقنيات العلميَّة الحديثة، اللِّثامَ عن أنَّ قديسهم التاريخيَّ القديم كان شريفًا إدريسيًّا مسلمًا من شمال أفريقيا! ويا لشماتة التاريخ!
(7) يُنظَر: علي، جواد، (2007)، أصنام الكتابات، (بغداد: دار الوراق)، 35- 36، 44، 48- 49، 51- 52؛ الفاسي، هتون أجواد، (1993)، الحياة الاجتماعيَّة في شَمال غرب الجزيرة العَرَبيَّة في الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، (الرِّياض: ؟)، 213.
(8) البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.
(9) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.
وسوم: العدد 1083