الكوفية بين المعلوم من الدين والمعلوم من التصهين بالضرورة
لا أريد من خلال هذا المقال التطفل على ما لست أهلا له بخصوص تفسير أو تأويل بعض الآيات، ولا الخوض في متاهات علم الكلام، بقدر ما أرغب في التأكيد على أهمية إلمام كل من ينتسب للدين الإسلامي بالمعلوم من الدين بالضرورة، والعمل على تجسيده في الواقع العملي، ولعل الاعتقاد بمسؤوليته عن أفعاله وتصرفاته، وما يترتب عنها من نتائج إيجابية كانت أو سلبية، من بين أهم هذا المعلوم الذي يُستنبط من كون الله سبحانه وتعالى خلق النفس البشرية، ومكنها من نوازع الخير والشر، المعبر عنها في القرآن الكريم بالنجدين، مصداقا لقوله تعالى في الآية 10 من سورة البلد: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾، وترك له الحسم في الانتماء لسبيل الشكر أو التقوى، أو لسبيل الكفر والفجور، مما يؤدي إما للفلاح وإما للخيبة، مصداقا لقوله تعالى في سورة سورة الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾، ومصداقا لقوله تعالى في سورة الشمس: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ ولعل هذا ما ذهب إليه مجموعة من المفسرين، وعلى رأسهم الشيخ الشعراوي حيث يقول في إحدى خواطره بأن الإنسان خُلق، وهو صالحٌ لأن يكون شاكرا، وصالح لأن يكون كفورا، وما دام الأمر كذلك، فإن اختياره لأحد البديلين هو مَكْمَنُ المسؤولية التي يترتب عنها الجزاء والمحاسبة بالضرورة.
من هذا المنطلق، فإن اختيار أحد البديلين يستلزم التثبت والإحاطة بالمعلوم من الدين بالضرورة في شأن البديل الذي تم تبنيه بالنسبة لكل من يقر بانتمائه للإسلام، حتى يكون على بينة من النتائج المترتبة عنه، والتي لا يمكن له في آخر المطاف أن يلوم في شأنها أحدا إلا نفسه، مصداقا للحديث القدسي الذي يقول فيه عز من قائل: "...يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
وأتصور أنه لا يمكن لنصرة المسلمين لإخوانهم في مختلف بقاع العالم عموما، وفي فلسطين وغزة خصوصا، إلا أن تكون معلوما من الدين بالضرورة، خاصة وأنها أصبحت معلوما من الإنسانية الحقة والفطرة السليمة بالضرورة، والنصوص الدالة على نصرة المسلمين لبعضهم البعض كثيرة، نكتفي منها بقوله تعالى في الآية 72 من سورة الأنفال: ﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ" وقوله: "المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً"...
وإذا كانت مستويات النصرة تختلف باختلاف الظروف والإمكانات، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة، ألا أحد من المسلمين يُستثنى من واجب النصرة، باعتبارها تندرج ضمن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم: "مَنْ رَأى مِنْكُم منكرًا فَلْيُغيِّره بِيَده، فإن لم يَستطع فَبِلسانه، فإن لم يستطع فَبِقلبه، وذلك أضعف الإيمان". ومما لا شك فيه أن كل قول أو عمل يروم نصرة فلسطين وأهلها، مهما كان رمزيا، يمكن إدراجه ضمن تغيير المنكر الذي ترعاه الصهيونية وداعموها من حكام الغرب ومن وَالاَهُمْ، لذلك فهو يُسهم في تزكية النفوس حتى وإن اقتصر على القلوب وإبقائها حية تقاوِم الظلم وتستنكره، وفي مقابل ذلك فإن كل قول أو عمل أو إشارة تُشْتَمُّ منها رائحة الإقرار للصهاينة مواصلتهم إبادة الشعب الفلسطيني وثقافته، لا يكمن إلا أن يكون تشجيعا على إشاعة الظلم والفساد، مما يؤدي لا محالة إلى تدسية نفوس أصحابها، وهو ما يشكل خطرا على القيم الحقة وعلى الفِطَرِ السليمة.
وإذا كانت الدعوة إلى نصرة القضية الفلسطينية، والتنديد بجرائم الإبادة التي يقترفها العدو الصهيوني في غزة تَعُمُّ جل شعوب العالم، فإن الواقع في بلدنا المغرب الحبيب المحسوب على البلاد الإسلامية، أصبح يعج يوما بعد آخر، بإعلان عدد من المندسين بيننا، والذين يتسمَّون بأسمائنا، -دون أن نخوض في سرائرهم-عن مجموعة من التصرفات، التي تؤشر على أنهم من الذين يسلكون مسلك تدسية أنفسهم. وإلا فما معنى أن يتم الإعلان عن قيام مجموعة من الشباب " المغاربة" بزيارة "لإسرائيل"، بتأطير من جمعية مشبوهة، وبتمويل من ألمانيا التي لا يخفى موقفها من العدو الصهيوني على أحد، علما أنه تم استقبالهم بكل الحفاوة الممكنة، ثم يبررون ذلك، ومعهم مجموعة من الأقلام المأجورة التي يَشترِي أصحابها بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا، بأنهم يفعلون ذلك خدمة للقضية الوطنية، على اعتبار أن إسرائيل اعترفت بالصحراء المغربية - وهذا غير صحيح علما أن نتانياهو لم يتورع عن استفزاز المغاربة لأكثر من مرة بتعمده الظهور أمام خريطة المغرب منقوصة- ولعل التبرير الذي فاه به الرئيس المؤسس لتلك الجمعية المشبوهة لإحدى الجرائد الإلكترونية ذات التوجه العلماني، مثال حي على الانحياز للكيان الصهيوني عنما قال: بأن "الشباب الذين زاروا إسرائيل إنما يرومون مساندة هذه الدولة التي اعترفت بمغربية الصحراء في أحلك محنتها مع حركة حماس، وهو منطق يفرضه مبدأ التضامن الذي يؤطر العلاقات الدولية مع الدول الصديقة". أي جرأة هذه؟ وأي انعدام للمروءة في هذا النوع من التبرير؟ في الوقت الذي تم تجاوزه من قبل جل شعوب العالم.
ولْنترك جانبا موقف الجهات الرسمية، بسبب افتقارنا للمعطيات الموضوعية المتعلقة بمنهجية مواجهتها للضغوط السياسية والاقتصادية، المفروضة من قبل الصهيونية العالمية على العالم كله، ولنعرج على تصرف العميد المكلف بعمادة كلية العلوم بنمسيك بالدار البيضاء، الذي رفض تسليم جائزة التفوق لإحدى الطالبات، بعدما أخفق في تجريدها من الكوفية التي تضعها على عنقها. ولعل في تمسك الطالبة بكوفيتها إشارة واضحة إلى موقفها المبدئي من نصرة القضية الفلسطينية، في نفس الوقت الذي عبر فيه السيد العميد بالتكليف عن موقف متخاذل، ومخز لا يجدر برجل محسوب على العلم والثقافة، وينتمي لبلد محسوب على الإسلام. والسؤال هو ما الذي أدى به إلى اتخاذ هذا الموقف غير المفهوم في هذا الوقت بالذات؟ هل كان ذلك عن عمد وسبق إصرار، متعمدا التضحية بسمعته وموقعه الاجتماعي مقابل تأكيد مقولة: "كلنا إسرائيليون"، خاصة وأنه مقبل على التقاعد، مما يجعله بعيدا عن الأنظار؟ أم أن اللَّهُ َأَضَلَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، بحيث باغته الأمر، وجعله يستجيب تلقائيا لهواه التابع للسنفونية الصهيونية.
ختاما، ودون أن أعمم، لأن من عمم فقد ظلم كما يقال، لكني أكاد أجزم بأن حمل الكوفية أصبح شعارا يعبر عن التضامن مع إخواننا الفلسطينيين ونصرتهم، وقد لا أجانب الصواب إن قلت بأن حملها أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة بالنسبة لكل مسلم يؤمن بوجوب تغيير المنكر، الذي يطال المسلمين عبر العالم وفي غزة بالخصوص، بل إن حملها أصبح من المعلوم من الفطرة السليمة والإنسانية الحقة بالضرورة، لتصبح الحيلولة دون ارتدائها في المقابل من المعلوم بالتصهين، وموالاة قتلة الأبرياء بالضرورة، ﴿ولَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ صدق الله العظيم.
وسوم: العدد 1087