«حماس» بعد هنيّة: رافعة غزّة بؤرة الثبات والتحوّل
ليس جديداً أن تخطط دولة الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال الخصوم عموماً، والفلسطينيين منهم خصوصاً، فهذا كيان قائم أصلاً على ركائز إرهابية واستعمارية واستيطانية، وتحكمه روحية العصابة والميليشيا والخيارات الفاشية على أصعدة عسكرية وأمنية، ومنظومات الأبارتيد والفصل العنصري والمؤسسة الدينية المتشددة في البنى الاجتماعية. اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» ليس سوى الواقعة الأحدث في سجلّ طافح بجرائم مماثلة؛ على مرأى ومسمع شطر من العالم، والديمقراطيات الغربية خصوصاً، يواصل التغنّي بدولة الاحتلال كـ»واحة ديمقراطية» هي الأوحد في الشرق الأوسط.
ليس جديداً، كذلك، أن تعجز سلطات آيات الله في إيران عن حماية رجالها أو حلفائها أو (في أضعف الإيمان!) ضيوفها وزوّارها؛ ليس في دمشق أو بغداد أو بيروت فقط، بل في قلب العاصمة طهران، وداخل واحد من مقارّ «الحرس الثوري» الذي يقاتل على الأرض ضدّ أبناء سوريا، أو يشحذ أسلحة «حزب اللهّ ضدّ اللبنانيين وما تبقى من أطلال دولتهم، أو يجنّد ويسلّح ويموّل وينشر سعار الميليشيات المذهبية، هنا وهناك في أرجاء المنطقة. الأرجح أنّ قاسم سليماني أغلى على المرشد الأعلى من هنيّة، وذراع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي أجهزت على الأوّل، ليست أطول كثيراً من أدوات مجرم الحرب بنيامين نتنياهو التي اغتالت الثاني.
ليس أقلّ مغزى، أو بالأحرى لعله في طليعة الدلالات، أنّ غياب هنية عن المشهد الداخلي في حركة «حماس» أي عن مسائل سياسية وتنظيمية وعسكرية وعقائدية قد تستحقّ صفة المعترك المفتوح؛ يستتبع أكثر من عودة واحدة إلى مآلات الحركة الراهنة وخياراتها المختلفة، وإلى محطات لعلها كانت فاصلة في مسارات تطوّرها، أو ركودها، أو اصطفافها في موقع وسيط بين بين. وإذا جاز أنّ غرض نتنياهو من اغتيال هنية هو تسجيل «ضربة معلّم» من مقامر/ مجرم حرب، تدغدغ الداخل الإسرائيلي وتمنحه رشوة من نوع ما؛ فإنّ غرضاً تالياً قد يكون خلخلة أيّ مستوى من الإجماع الداخلي الذي حافظت عليه «حماس» منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، في أعقاب «طوفان الأقصى».
«حماس» إرث معقد، ليس متجانساً تماماً كما قد يلوح للوهلة الأولى، أو ليس توافقياً بدرجات عالية تتيح التفكير في انسجام داخلي تعددي لا هوامش تعكّر صفوه؛ وبالتالي ليس أمراً غير منتظَر أن تتبدّل معطيات ذلك الإرث مع تبدّل الأزمان
وإذا صحّ الافتراض بأنّ خالد مشعل هو المرشح المرجح لرئاسة المكتب السياسي، فإنّ تحوّلاً واسعاً ملموساً لن يكون منتظَراً من الحركة في الشتات الفلسطيني، أو على أصعدة الكوادر خارج قطاع غزّة والضفة الغربية والقدس؛ الأمر الذي لن يختلف كذلك، نوعياً وعقائدياً بادئ ذي بدء، لدى كوادر «حماس» السياسية وربما التنظيمية/ العسكرية في داخل القطاع. ورغم تبدّل السياقات، العليا منها والستراتيجية مثل تلك الدنيا والتكتيكية؛ وغياب قيادات رائدة، سواء في مستويات العقيدة الإخوانية التأسيسية أم تلك اللاحقة حين توجّب أن تخوض «حماس» غمار الحكم والحكومة في موازاة حركة «فتح» وسلطة رام الله؛ فإنّ قسطاً لافتاً، ولعله مدهش أيضاً، من الثبات المتوازن هيمن على سجالات الحركة الداخلية.
وغياب هنية قسراً واغتيالاً اليوم، يتضافر مع خروج مشعل تنظيمياً (بقرار مجلس الشورى؟) من رئاسة المكتب السياسي إلى موقع رئاسة مكتب الشتات غامض المهامّ؛ ولعله يعيد الكثير من المعادلات السياسية للحركة إلى «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» التي كان مشعل قد أعلنها في صيف 2017. ذلك لا يستبعد سؤالاً مرادفاً، يفضي بدوره إلى حال المعترك الداخلي إياها: هل أدخلت الوثيقة تعديلات ملموسة، أو نوعية، على ميثاق الحركة التأسيسي الذي صدر في آب (أغسطس) 1988؟ وهل تصلح، في هذا، إجابات من طراز الـ»نعم» أو الـ»لا»؛ أم أنّ مزيجاً جدلياً من التأكيد والنفي، معاً، هو الأكثر صواباً؟
في صياغة ثالثة للسؤال ذاته، هل رافعة الثبات (والتحوّل أيضاً، استطراداً وجدلاً) مستقرّة أساساً في قطاع غزّة، وبعض الضفة الغربية حيث تمتلك «حماس» قواعد شعبية مكينة؛ أم هي متنقلة متغايرة، لصالح الخارج ورهاناته (الإيرانية، في المقام الأوّل، ثمّ «الممانِعة»)، بين طور وآخر؟ وبمعزل عن رافعات نوعية فرعية، فارقة تماماً مع ذلك، على غرار «طوفان الأقصى»؛ هل ستعود خيارات «حماس» الخارج، و»شتات» مشعل على وجه التحديد، إلى دوامة التقلّب من حاضنة نظام عربي تارة، إلى إسار محور إقليمي تارة أخرى، من دون استبعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؟
وقد يكون من الإنصاف النظر إلى التوافق الحمساوي على ميثاق 2017 التجديدي من زاوية الولادة اليسيرة، غير العسيرة وغير الخاضعة للطارئ أو الضاغط أو الملحّ؛ بالمقارنة، مثلاً، مع اضطرار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى إطلاق صفة التقادم (الـ»كادوك» الشهير) على الميثاق الوطني الفلسطيني، من قلب العاصمة الفرنسية، سنة 1989. خاصة، أيضاً، وأنّ «حماس» تجاوزت ميثاقها التأسيسي مراراً، عملياً ونظرياً في واقع الأمر؛ ابتداءً من انضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والرسالة الشهيرة إلى الشيخ عبد الحميد السائح، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني يومذاك. لا يصحّ، أيضاً، إغفال الانضواء تحت «إعلان القاهرة» 2005؛ الذي نصّ، بين بنود أخرى، على «أنّ الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين كافة القوى دعماً للوحدة الوطنية ووحدة الصف الفلسطيني وعلى تحريم الاحتكام للسلاح في الخلافات الداخلية» فضلاً عن تعهد حماس بالمشاركة في الانتخابات التشريعية.
وإلى هذا وذاك، ثمة تلك الحقيقة الكبرى المركزية التي تفيد بأنّ «حماس» إرث معقد، ليس متجانساً تماماً كما قد يلوح للوهلة الأولى، أو ليس توافقياً بدرجات عالية تتيح التفكير في انسجام داخلي تعددي لا هوامش تعكّر صفوه؛ وبالتالي ليس أمراً غير منتظَر أن تتبدّل معطيات ذلك الإرث مع تبدّل الأزمان، وأن تتقادم المبادئ أو تتراجع أولوياتها، أو تُراجَع بين حين وآخر، على نحو جذري أحياناً. الحركة، أوّلاً، وأنى ذهبت تلميحات «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» هي الوريث الأهمّ لجماعة «الإخوان المسلمين» في فلسطين عموماً، وفي قطاع غزّة خصوصاً.
والواقعة التاريخية تقول إنّ سبعة من كبار قيادات الجماعة التقوا في أواخر سنة 1987، وأعلنوا تأسيس حركة «حماس» وأولئك كانوا الشيخ أحمد ياسين وإبراهيم اليازوري ومحمد شمعة (في تمثيل مدينة غزة)، وعبد الفتاح دخان (ممثل المنطقة الوسطى)، وعبد العزيز الرنتيسي (ممثل خان يونس)، وعيسى النشار (ممثل رفح)، وصلاح شحادة (ممثل منطقة الشمال). كذلك شهدت مرحلة التأسيس صعود قياديين أمثال خليل القوقا، موسى أبو مرزوق، إبراهيم غوشة، وخالد مشعل. مَن استشهد من هؤلاء، ومَن تبقى على رأس الحركة في مختلف شرائحها القيادية، يقول قسطاً غير قليل عن ثبات الرافعة، وموقعها، ونفوذها.
ذلك، أيضاً، لأنّ «حماس» قامت منذ البدء على ثلاثة أجنحة قيادية: السياسي، وأداره المقرّبون من الشيخ ياسين (اليازوري، أبو شنب، الزهار)؛ والأمني والاستخباراتي، وكان يُعرف باسم «المجد» بإدارة يحيى السنوار وروحي المشتهى؛ والعسكري، وبدأ من خلايا صغيرة قبل أن يأخذ صيغة فصائل عز الدين القسام كما تُعرف حالياً. وعلى امتداد السنوات والعقود، وتعاقب الأحداث والأزمات والأزمنة، استقرّت قيادة «حماس» السياسية على جناحين: داخلي مقيم في قطاع غزّة، وخارجي مقيم في عواصم عربية متعاقبة؛ وتوفّر في كلّ جناح فريق اعتدال، وفريق تشدّد، وفريق وسط.
وقد لا يكون اغتيال هنية عنصراً حاسماً في تغيير الموازين الثلاثة خلف الرافعة الراهنة الغزاوية، سواء من حيث الموقع الجغرافي أو النفوذ القيادي العسكري، وبالتالي علوّ الشأن في تقرير مآلات «حماس» كافة: الداخل الفلسطيني أوّلاً، ثمّ الخارج والشتات، سواء بسواء.
وسوم: العدد 1090