اغتيال الاستعارة

الأسبوع الماضي أثار سخريتي امتناع سفير أمريكا وسفراء دول غربية أخرى عن المشاركة في الاحتفال بذكرى جريمة ناغازاكي، بسبب عدم دعوة سفير إسرائيل إلى الاحتفال. الجريمة التي سقط فيها قرابة الخمسة وسبعين ألف مواطن ياباني ضحية للقنبلة النووية الأمريكية.

ناغازاكي كانت الإشارة الأولى في دخول العالم في الرعب النووي. بينما تلعب إسرائيل دور المؤشر على زمن نووي جديد قد يدخله العالم في أي لحظة.

الغريب أن الضحية اليابانية تستدعي القاتل للاحتفاء معها وهي تحتفي به كقوة لا ترد.

المسألة تثير حيرتي! هل بلغ الحقد العنصري على العرب والمسلمين حد التفاخر بصداقة إسرائيل التي تروج كل يوم لإمكانياتها النووية الكبيرة؟

السؤال هو معنى الذاكرة، فلقد شهدنا في كثير من المناطق كيف تضمحل الذاكرة لمصلحة الأفكار الفاشية والوحشية في العالم.

ناغازاكي وهيروشيما هما مثالان لهذا الانحلال، وهو انحلال أخلاقي أولاً. إذ إن إدانة الوحشية اليابانية خلال الحرب لم تكن تستدعي هذا الرد النووي الأمريكي.

المقارنة المستمرة بين الإبادة في غزة والحرب النووية على اليابان لا تقود إلى مكان. فنحن في غزة تجاوزنا الاربعين ألف شهيد من دون أن نضرب بالنووي. وضربنا بما هو أبشع من النووي في مجزرة الفجر منذ أيام، حين كان المصلون يحترقون بالنار التي كانت تنصب عليهم. وصار التقاط الجثث أشبه بالمستحيل.

وهذا يعيدنا إلى المقارنة بالمحرقة النازية وهي مقارنة لا تمت إلى الواقع بصلة. فالذي يجري في غزة هو إبادة شعب وتصفية وطن وملاحقة الفلسطيني أينما كان. كما تقفز المقارنة بين المعتقلات النازية والإسرائيلية أمام عيوننا لتقول لنا إنها رغم كونها حقائق لكنها تداخلت بفظائعها حيث ضاع الفرق بين الجلاد والضحية.

كما ترون، نستطيع أن نستكشف هذا التداخل في الأزمنة والأمكنة والأشخاص الذي هو سمة عصرنا.

المشكلة التي يطرحها مثل هذا التداخل هي متى تبدأ ومتى تنتهي؟ هل البداية هي انفصال عن الماضي أم هي إعادة تدوير له؟ وما معنى إعادة تدوير الماضي؟

هنا نكتشف التداخل بين عناصر نعتقد أنها متنافرة، كالماضي والحاضر والجلاد والضحية، لأن الواقع الذي نعيشه يقول ذلك.

في الحقيقة، لا ينقسم العالم إلى قسمين كما نعتقد، بل ينقسم إلى أنصاف لا تحصى وهذا ما علّمنا إياه رئيس الوزراء الصيني الأسبق، تشوان لاي، عندما سئل عن الثبات وعدم التغير بعد انتصار الثورة الصينية، فأجاب: «لا يوجد ثبات، التغيير هو عنوان الحياة، انظروا إلى القمر، إنه في تغير دائم، مرة في الشهر يكون بدراً وفي كل الأطوار الأخرى يكون إما ناقصاً أو زائداً».

هذا هو درس البلاغة الصيني الذي نراه في كل مكان.

الرئيس الصيني رسم لنا استعارة قبل أن تفقد الاستعارات معانيها. فهو من جهة على حق حين وصف العالم بكونه باباً مفتوحاً على التغيير، لا يثبت على شيء.

لكن التاريخ أتى لينصف كلام تشوان لاي بشكل قاسٍ جداً خلال الثورة الثقافية الصينية حين تمرمغت القيم بالتراب ثم جاءت الإصلاحات لتلغي مفاعيل الثورة الثقافية.

جيل واحد اختبر الشيء وضده وتعلم منهما درس الاستعارة التي لا تقود إلا إلى الوهم.

هذا المثال المتطرف لسقوط الاستعارات، فتح الباب أمام السقوط الشامل للاستعارة في بلادنا.

أنت لم تعد تستطيع أن تروي من دون أن تصطدم بجبل من الاستعارات الذي يتصدى لك ويحاول اغتيالك.

وهذا ما أشار إليه شاعرنا محمود درويش في قصيدته «اغتيال»:

«يغتالني النقاد أحيانا:

يريدون القصيدة ذاتها

والاستعارة ذاتها..

يغتالني النقاد أحيانا

وأنجو من قراءتهم،

وأشكرهم على سوء التفاهم

ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة!»

الآن أشهد كيف تغتال أداة الاغتيال نفسها وتقتل معناها.

هكذا أيها السيدات والسادة تم اغتيال الاستعارة. والكتابة من دون استعارات تصير عارية وتفقد دلالاتها واحتمالاتها.

وسوم: العدد 1091